أعلنت الحكومة عبر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تراجع معدل البطالة إلى 6.1% خلال الربع الثاني من عام 2025، في ما اعتبرته "نجاحاً" جديداً لسياساتها الاقتصادية.
لكن خلف هذه الأرقام الرسمية تكمن حقيقة مغايرة تماماً. فالمواطن البسيط، الذي يعيش يومياً تحت وطأة الغلاء وانعدام فرص العمل الحقيقية، لا يرى أي أثر لهذه "الإنجازات" الورقية.
هذه المفارقة الصارخة تعكس نمطاً متكرراً في إدارة الدولة المصرية منذ استيلاء عبد الفتاح السيسي على الحكم: الاعتماد على التجميل الإعلامي للأزمات عبر بيانات مضللة، في وقت تتفاقم فيه البطالة المقنّعة، وتنهار القدرة الشرائية، ويزداد الفقر بصورة غير مسبوقة.
الأرقام الرسمية.. صورة وردية زائفة
بحسب بيان الحكومة، فإن نسبة البطالة في مصر تراجعت من 7.2% في العام الماضي إلى 6.1% في منتصف 2025، وهو ما يوحي بوجود تحسن واضح في سوق العمل.
لكن المعضلة تكمن في أن هذه الأرقام لا تعكس الواقع لأسباب عدة:
- تعريف ضيق للبطالة: الحكومة تعتبر أن من يعمل ساعة أو ساعتين أسبوعياً لا يعد عاطلاً، حتى لو لم يكن دخله كافياً لسد احتياجاته الأساسية.
- التجاهل المتعمد للهجرة: مئات الآلاف من الشباب يتركون البلاد سنوياً بحثاً عن عمل بالخارج، ما يخفف الضغط على السوق المحلي ويخفض نسبة البطالة "حسابياً"، لكنه لا يعكس تحسناً حقيقياً في الاقتصاد.
- الاقتصاد غير الرسمي: أكثر من 50% من قوة العمل المصرية تعمل في قطاع غير رسمي بلا عقود ولا ضمان اجتماعي أو صحي، ورغم ذلك يتم اعتبارهم "مشتغلين".
الواقع الاقتصادي.. بطالة مقنّنة وفقر متزايد
المواطن المصري لا يحتاج إلى بيانات حكومية ليدرك حجم البطالة. فالواقع يؤكد أن:
- آلاف الخريجين الجامعيين لا يجدون عملاً في تخصصاتهم، ويضطرون للعمل في وظائف لا تليق بمؤهلاتهم مثل توصيل الطلبات أو بيع السلع على الأرصفة.
- هناك تراجع مستمر في القطاعات الإنتاجية (الصناعة والزراعة)، التي يُفترض أن تكون المصدر الأساسي لفرص العمل المستدامة.
- مشاريع "البنية التحتية العملاقة" التي تتباهى بها الحكومة، مثل العاصمة الإدارية الجديدة، تخلق فرص عمل مؤقتة، تنتهي بانتهاء المشروعات، ولا تسهم في بناء اقتصاد إنتاجي طويل الأجل.
بالتالي، فإن البطالة "المخفية" أكبر بكثير من المعلنة، والفقر الذي يعيشه الملايين هو الشاهد الأوضح على ذلك.
التضليل الإعلامي وأثره على الرأي العام
الحكومة لا تكتفي بنشر هذه الأرقام، بل تدفع وسائل الإعلام الموالية لها للتغني بها، وكأنها انتصار قومي.
يتم إغراق المواطن برسائل دعائية تزعم أن الوضع الاقتصادي في تحسن، في حين أن الأسعار في الأسواق تتضاعف والقدرة الشرائية تنهار.
هذه الممارسة لا تهدف إلا لشراء الوقت وتجميل صورة النظام أمام المؤسسات الدولية والدائنين، خصوصاً صندوق النقد الدولي الذي يراقب عن كثب مؤشرات البطالة والنمو.
لكن هذا التضليل له نتائج عكسية، إذ يخلق فجوة واسعة بين المواطن والدولة. فالمواطن الذي لا يجد عملاً أو لا يستطيع تدبير معيشته اليومية، يفقد الثقة تماماً في أي بيانات حكومية، ويرى أنها مجرد دعاية سياسية هدفها إخفاء الفشل.
تجارب الشباب مع البطالة.. شهادات على الانهيار
عندما تسير في شوارع القاهرة أو الإسكندرية، وتجلس مع الشباب في المقاهي، تسمع قصصاً تعكس حجم الأزمة:
- خريج هندسة ميكانيكية يعمل في توصيل الطلبات منذ ثلاث سنوات لأنه لم يجد عملاً في تخصصه.
- طبيبة شابة هاجرت إلى الخليج بعد أن فقدت الأمل في الحصول على وظيفة مستقرة داخل مصر.
- عشرات الآلاف من الشباب يحلمون بالهجرة غير الشرعية عبر البحر، معرضين حياتهم للخطر، هرباً من انسداد الأفق الاقتصادي.
هذه الشهادات اليومية تكشف زيف الإحصاءات الرسمية، وتؤكد أن مصر تعيش أزمة بطالة عميقة لا يمكن التستر عليها.
البطالة والفقر.. حلقة جهنمية
ارتفاع البطالة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بزيادة معدلات الفقر.
فوفق تقارير البنك الدولي، يعيش أكثر من 30% من المصريين تحت خط الفقر، بينما يقترب نصف السكان من هذه العتبة.
البطالة تعني غياب الدخل، والفقر يؤدي إلى انعدام القدرة على التعليم الجيد أو الرعاية الصحية، ما يخلق جيلاً جديداً أقل قدرة على المنافسة في سوق العمل.
وهكذا ندور في حلقة مفرغة لا تنكسر إلا بسياسات اقتصادية جديدة قائمة على الإنتاج الحقيقي، لا على الديون والمشروعات الدعائية.
سياسات الحكومة.. هروب إلى الأمام
بدلاً من مواجهة جذور الأزمة عبر إصلاح القطاع الصناعي والزراعي وتشجيع الاستثمار المنتج، تواصل الحكومة السير في طريق الاقتراض الخارجي والاعتماد على المشروعات العقارية الضخمة.
هذه السياسات لا توفر فرص عمل مستدامة، بل تزيد من أعباء الديون التي ستدفعها الأجيال القادمة.
وفي ظل غياب استراتيجية واضحة للتنمية البشرية، يظل سوق العمل المصري عاجزاً عن استيعاب مئات الآلاف من الخريجين سنوياً.
الحقيقة أقوى من الأرقام
رغم محاولات الحكومة تجميل الواقع عبر أرقام البطالة المنخفضة، فإن الحقيقة واضحة للعيان: مصر تواجه أزمة اقتصادية خانقة، والبطالة هي أحد أبرز وجوهها.
الأرقام الرسمية قد تخدع المؤسسات الدولية لبعض الوقت، لكنها لا تخدع المواطن الذي يواجه صعوبة في العثور على عمل أو توفير احتياجات أسرته.
إن استمرار سياسة التلاعب بالإحصاءات لن يؤدي إلا إلى فقدان ما تبقى من ثقة الشعب في الدولة، وإلى مزيد من الاحتقان الاجتماعي.
وحده الاعتراف بالواقع ووضع حلول جذرية يمكن أن ينقذ مصر من هذا المسار الخطير.