وُلدت أسماء محمد البلتاجي عام 1996 في بيتٍ غمره الوعي بالقيم الإنسانية والنضال من أجل الحرية. كانت ابنة السياسي المعروف الدكتور محمد البلتاجي، أحد وجوه ثورة 25 يناير البارزين، لكنها لم تعش حياة "أبناء السياسيين" في رفاهية أو عزلة، بل كانت أقرب إلى الفتيات البسيطات اللواتي يختلطن بالناس ويتفاعلن مع قضاياهم.
كانت أسماء منذ طفولتها فتاة مرحشة، عاشقة للعلم والشعر، تتقدم الصفوف في الأنشطة المدرسية، وتحمل بين عينيها بريقًا خاصًا يشع بالأمل.
شغف بالحرية وعدالة لا تتجزأ
حين اندلعت ثورة يناير 2011، كانت أسماء في الخامسة عشرة من عمرها، لكن وعيها السياسي كان أكبر بكثير من سنوات عمرها.
نزلت إلى الميادين، تهتف مع الجماهير: "عيش، حرية، عدالة اجتماعية". لم تكن مجرد متفرجة أو مرافقًا لأسرتها، بل كانت فاعلة، تؤمن أن الحرية حق للجميع.
كتب عنها أصدقاؤها أنها كانت دائمًا تقول: "القضية ليست لأجل الإخوان أو أي فصيل، بل لأجل كل إنسان يريد أن يعيش بكرامة".
قبل رابعة: إصرار على المبدأ
في صيف 2013، ومع أحداث الانقلاب العسكري، اتخذت أسماء قرارًا واضحًا بالانحياز إلى الشارع الرافض لسلب إرادة المصريين. كانت تدرك أن النزول إلى اعتصام رابعة العدوية يعني مواجهة خطر الموت، لكنها قالت لوالدتها في إحدى الليالي: "إذا كنا نتحدث عن الحرية ونخاف من الموت، فنحن لم نفهم معنى الكلمة".
14 أغسطس 2013: اليوم الأخير
في صباح الأربعاء 14 أغسطس، يوم فض اعتصام رابعة، كانت أسماء وسط آلاف المعتصمين. الرصاص ينهمر من كل اتجاه، والدخان يملأ المكان. حاول بعض الأصدقاء إقناعها بالابتعاد إلى منطقة أكثر أمانًا، لكنها رفضت قائلة: "هنا مكاني، هنا أهلي".
وفي لحظة، أصابتها رصاصة قاتلة. سقطت على الأرض، وبقيت ابتسامتها الأخيرة محفورة في ذاكرة من رآها.
مشهد الوداع
انتشر مقطع مصور لأسماء وهي مسجّاة في أحد المستشفيات الميدانية، ملابسها مضرجة بالدماء، وملامحها هادئة كأنها نائمة.
كما تم تم تداول فيديو نادر يوثق اللحظات الأخيرة من حياة أسماء قبل استشهادها في ميدان رابعة العدوية.
يُظهر الفيديو إصابتها الحادة داخل المستشفى الميداني، مع نطقها لتلاوة قرآنية في أجواء ملؤها الألم والاستسلام.
يوضح الفيديو أن سيارات الإسعاف رفضت دخول المنطقة لإنقاذها، وهو ما يبرر أن "المستشفى الميداني لم يتمكن من استيعابها بسبب الحصار الأمني.
https://www.youtube.com/watch?v=DyaBnNCFzAs
جنازة مؤلمة في حضور الوالد الغائب
رغم العلاقة القوية بينها وبين والدها، لم يتمكّن الدكتور محمد البلتاجي من حضور جنازة ابنته. الجنازة جرت في مسجد السلام في مدينة نصر، وشهدها المئات من المصلين، حيث حمل شقيقها العزاء بيدٍ متهالكة وعينين لا تخفي الحزن .
وأثناء الجنازة بكى الآلاف وهم يشاهدون والدها يتحدث عنها لاحقًا بثبات مذهل، قائلاً: "يا حبيبتي يا معلمتي… لا نقول وداعًا، بل لقاء قريب إن شاء الله… عشت بشموخ، معادية للظلم، محبة للحرية… كنتِ رمزًا للنقاء… قُبلت تضحيتك… رحمك الله شهيدة"...
كلمات صُنِفَت كوصية وأيقونة للنضال ضد الطغيان". ومنذ ذلك الوقت تحوّل وجه أسماء إلى أيقونة للمقاومة السلمية، وصارت صورتها ترفع في المظاهرات حول العالم.
أسماء في الذاكرة الثورية
لم تكن أسماء مجرد رقم في قائمة شهداء رابعة، بل أصبحت رمزًا جماليًا وأخلاقيًا لمقاومة الظلم. كتابات النشطاء تصفها بأنها "زهرة سُقيت بدمائها"، وصوتها لا يزال حاضرًا في تسجيلات قصيرة وهي تنشد أو تهتف.
انتشرت قصتها في الصحف العالمية، وكتبت عنها الـ"غارديان" والـ"واشنطن بوست"، مشيرة إلى شجاعتها وإصرارها على البقاء حتى اللحظة الأخيرة.
الإرث الإنساني
قصة أسماء تتجاوز السياسة؛ هي حكاية فتاة رفضت أن تعيش في وطن مسلوب الإرادة.
إيمانها بالحرية كان أكبر من حياتها، ورحيلها المبكر صار شاهدًا على أن بعض الأرواح لا تُقاس بسنوات العمر، بل بما تركته من أثر.
في كل ذكرى لفض رابعة، تُرفع صورها في الميادين الافتراضية وعلى جدران الذاكرة الشعبية، لتذكّر الجميع بأن الحرية ثمنها غالٍ، لكنّ هناك من يدفعه طواعية.
وفي النهاية فإن أسماء البلتاجي لم تعد بيننا جسدًا، لكن سيرتها تحوّلت إلى نشيد أجيال.
هي واحدة من أولئك الذين سقطوا في مواجهة الرصاص بلا خوف، وبابتسامة واثقة بأن التضحية لن تضيع.
قصتها تظل جرس إنذار ضد الاستبداد، ونافذة أمل في أن الحلم سيكتمل، ولو بعد حين.