في خطوة جديدة تُضاف إلى سجلّ الحكومة المصرية في التوسع غير المسبوق في نزع ملكيات المواطنين، أصدر الفريق كامل الوزير، وزير النقل ونائب رئيس الوزراء للتنمية الصناعية، قرارات بإزالة ملكية أراضٍ وعقارات في أربع محافظات — الدقهلية ودمياط وقنا وسوهاج — بحجة إنشاء محاور مرورية وكباري علوية، وهي مشروعات تقول الحكومة إنها «قومية»، بينما يرى كثير من الأهالي والمتابعين أنها لا تحقق لهم فائدة حقيقية، بل تقتلعهم من بيوتهم وتجرف ممتلكاتهم مقابل تعويضات زهيدة.
قرارات أغسطس 2025: نفس السيناريو يتكرر
قرارات الوزير الأخيرة تستند إلى ما تسميه الحكومة «تعذر توقيع الملاك» على نماذج التنازل الرضائي، وهي صيغة اعتادتها الجهات التنفيذية لتبرير الانتقال مباشرة إلى نزع الملكية القسري.
ففي محافظة الدقهلية، شملت القرارات قرى ومدن مثل طلخا وأورمان طلخا وميت عنتر والمنيل والروضة، وامتدت لتشمل دمياط، بهدف توسعة وتطوير «رافد جمصة» وإنشاء أربع كباري علوية، بالإضافة إلى بوابات رسوم.
وفي قنا وسوهاج، جاء القرار لاستكمال محور «دار السلام» على النيل، وهو مشروع تقول الحكومة إنه «حيوي»، لكن المواطنين المتضررين يرون أنه مجرد ممر لعبور الشاحنات لا يخدم احتياجاتهم اليومية.
قانون نزع الملكية… سيف مسلط على رقاب الفقراء
تستند هذه القرارات إلى قانون نزع ملكية العقارات للمنفعة العامة رقم 10 لسنة 1990 وتعديلاته، الذي يعطي الحكومة الحق في مصادرة الأملاك الخاصة متى اعتبرت أي مشروع «منفعة عامة».
ورغم أن القانون ينص على تعويض «طبقًا للأسعار السائدة» مضافًا إليها 20%، فإن التطبيق على أرض الواقع يثبت أن هذه النسبة شكلية، وأن تقديرات اللجان الحكومية دائمًا ما تكون أقل كثيرًا من الأسعار الفعلية في السوق.
الأهالي الذين تُنتزع بيوتهم يجدون أنفسهم أمام خيارين: إما قبول المبلغ الهزيل الذي لا يكفي حتى لشراء شقة صغيرة في مكان قريب، أو الدخول في دوامة من التظلمات والدعاوى القضائية التي قد تستغرق سنوات، بينما المشروع ينفذ فوق أنقاض بيوتهم.
سجل طويل من الإخلاءات القسرية
قرارات كامل الوزير ليست حدثًا استثنائيًا، بل هي جزء من نهج حكومي ممتد في السنوات الأخيرة، حيث شهدت مصر موجات متتالية من الإخلاء القسري تحت لافتة «التطوير» و«المشروعات القومية».
- جزيرة الوراق: رمز لمقاومة الأهالي ضد الإخلاء، حيث واجه السكان محاولات إخراجهم بالقوة لإقامة مشروع استثماري. الحكومة أعلنت صرف مليارات كتعويضات، لكن الكثير من الأهالي رفضوا، معتبرين أن المبالغ لا تعادل قيمة الأرض ولا تعوّض خسارة مجتمعهم المحلي.
- مثلث ماسبيرو: قلب القاهرة الذي أُفرغ من سكانه تدريجيًا، مقابل تعويضات نقدية أو وعود بسكن بديل لم يتحقق للبعض أو جاء في مناطق بعيدة، بينما ارتفعت قيمة الأرض بعد هدم المنطقة أضعافًا.
- نزلة السمان: سكان حرم الأهرامات واجهوا قرارات إزالة بحجة حماية المنطقة الأثرية، وسط اتهامات بأن الهدف الحقيقي هو استغلال المنطقة سياحيًا واستثماريًا، مع عرض تعويضات أقل كثيرًا من القيمة الحقيقية للعقارات.
هذه الحالات وغيرها تكشف أن «المنفعة العامة» أصبحت تعبيرًا فضفاضًا يستخدم لتبرير إزاحة المجتمعات المحلية من أماكنها، سواء لصالح طرق أو استثمارات عقارية أو مشروعات سياحية.
مشروعات لا يلمسها المواطن
الغضب الشعبي لا ينبع فقط من التعويضات الزهيدة، بل من قناعة واسعة بأن هذه المشروعات لا تحقق فائدة مباشرة للأهالي الذين يضحّون بمنازلهم.
فالطرق والمحاور الجديدة غالبًا ما تخدم مرور الشاحنات أو حركة النقل بين المحافظات، بينما لا تعالج أزمات المواصلات داخل القرى والمدن نفسها، ولا توفر خدمات أو فرص عمل بديلة للمتضررين.
الأهالي الذين يعيشون على هامش هذه المشروعات يشاهدون يوميًا الكتل الخرسانية والجسور وهي تقطع أوصال أحيائهم، بينما هم مجبرون على النزوح إلى مناطق بعيدة بلا تخطيط عمراني أو دعم كافٍ.
فجوة الثقة… من وعود «التطوير» إلى واقع «الإخلاء»
كل مرة، ترفع الحكومة شعار «التطوير» و«إعادة التخطيط» و«تحسين جودة الحياة»، لكن ما يراه المواطن هو جرافات تهدم بيته، وموظف يعرض عليه شيكًا بمبلغ لا يكفي لشراء نصف شقة، وورقة تطلب منه إخلاء المكان خلال أسابيع أو حتى أيام.
تكرار هذا المشهد في مناطق متعددة من البلاد أدى إلى تآكل الثقة بين المواطنين والحكومة، وإلى انتشار قناعة بأن المشروعات الكبرى تنفذ لصالح جهات استثمارية أو أهداف سياسية، لا لصالح السكان المحليين.
تحذيرات من تصاعد الغضب
تجاهل الحكومة للمطالبات الشعبية برفع قيمة التعويضات وربطها بالقيمة السوقية الحقيقية، وتجاهل الأبعاد الاجتماعية والثقافية لتهجير مجتمعات بأكملها، قد يفاقم الاحتقان. ومع الضغوط الاقتصادية المتصاعدة، يصبح فقدان المنزل أو الأرض صدمة وجودية للأسر، ما يجعل الغضب الشعبي أكثر حدة، خاصة حين يرى الناس أن «المصلحة العامة» لا تشملهم.
وفي النهاية فإن قرارات كامل الوزير الأخيرة ليست سوى حلقة جديدة في سلسلة طويلة من سياسات نزع الملكية التي توسع نطاقها حتى شملت قرى ومدن كاملة، تحت مسمى مشروعات قومية لا يلمس الناس فوائدها. وفي غياب آليات تعويض عادلة، واحترام لحق الناس في البقاء في مجتمعاتهم، فإن هذه القرارات لا تُترجم إلا إلى مزيد من التهجير القسري، وحرمان المواطنين من أبسط حقوقهم الدستورية، وإشعال غضب شعبي لا يمكن تجاهله.