مصطفى عبد السلام
رئيس قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد"
لعودة الأمور إلى نصابها الصحيح يمكن القول إن الغاز الطبيعي الذي ستستورده مصر من دولة الاحتلال بقيمة تبلغ 35 مليار دولار وحتى العام 2040 هو في الأصل غاز فلسطيني يتم استخراجه من حقول غاز تقع قبالة سواحل غزة، ونهبته إسرائيل وسطت عليه بقوة السلاح في سنوات سابقة، وهذا الأمر ينطبق على الغاز الإسرائيلي المصدر إلى الأردن والسلطة الفلسطينية في رام الله ودول أوروبية عدة.
ولا تزال إسرائيل تمنع الفلسطينيين من الاستفادة من مواردهم وثرواتهم وقبلها حرمانهم من أرضهم ووطنهم، ويحاول الكيان حاليا وبكل الطرق احتلال قطاع بالكامل غزة، والسطو على ما تبقى من حقول غاز ونفط تقع في المياه الإقليمية الفلسطينية مباشرة، ومنها حقل غزة مارين الذي يصنّف على أنه أكبر تلك الحقول، حيث يحوي أكثر من تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي، وبطاقة إنتاجية 1.5 مليار متر مكعب سنويًا لمدة 20 عامًا.
وهناك حقل بوردر فيلد، وحقل غاز ماري بي الواقع على الحدود البحرية الشمالية لغزة، وحقل نوا للغاز الذي اكتُشف عام 1999، وبحسب تقديرات فإن مخزون الغاز بداخل الحقل الأخير يبلغ نحو 3 تريليونات قدم مكعبة، إلا أن تل أبيب سطت على حقل نوا واستغلت بالفعل موارده عام 2012، وهناك مؤشرات على وجود حقل غاز في بحر المنطقة الوسطى لقطاع غزة، مقابل مخيم النصيرات، على بعد بضع مئات من الأمتار عن الشاطئ.
أما بالنسبة لما تردد عن أن حقول الغاز التي سطت عليها إسرائيل، ومنها ليفياثان وتمار وكاريش، هي في الأصل حقول مصرية، حيث تقع في المياه الإقليمية والمنطقة الاقتصادية المصرية، وأن مواقعها جغرافيا أقرب للسواحل المصرية منها لسواحل غزة، وأن مصر تستورد حاليًا غازها المنهوب أصلًا، فهذا القول بحاجة إلى خرائط وأدلة دامغة من قبل الجهات المسؤولة في الدولة المصرية أو خبراء قانون وجغرافيا سياسية معنيين بالملف، ولا يتم الاكتفاء بنفي إعلامي محسوب على السلطة أو لجان إليكترونية أو خبراء غير ملمين بالملف أصلًا.
صحيح أن الدكتور إبراهيم يسري، رحمه الله، وهو دبلوماسي مصري، وسفير سابق لمصر في الجزائر، أقام قبل سنوات دعاوى قضائية شهيرة أمام المحاكم المصرية، أكد فيها أحقية مصر في ثلاثة حقول للغاز تقع بشرق البحر المتوسط، اثنان نهبتهما إسرائيل، والثالث نهبته قبرص، كما طالب بإلغاء صفقة تصدير الغاز لإسرائيل، وبطلان الاتفاقية التي خولت قبرص البحث في المناطق الهيدروكربونية في المياه الاقتصادية الخالصة لمصر.
ولا نعرف مصير تلك الدعاوى حاليًا، وهل هناك أسانيد قانونية وفنية تدعمها. وهذه نقطة يمكن الرجوع إليها لاحقًا، فهي تحتاج إلى بحث معمق وأدلة قوية. لكن يجب النظر إلى دعاوى إبراهيم يسري باهتمام وعناية شديدة، خاصة أن الرجل شغل مناصب رفيعة في الدولة المصرية وسلكها الدبلوماسي، منها مساعد وزير الخارجية للقانون الدولي والمعاهدات الدولية، واشتهر بمواقفه الوطنية، ومنها المعارضة الشديدة لتصدير الغاز المصري لدولة الاحتلال أو التطبيع الاقتصادي معها، وتولى قيادة حملة "لا لبيع الغاز للكيان الصهيوني". وشارك في الدفاع عن مصرية جزيرتي "تيران وصنافير"، وحصل بالفعل على حكم تاريخي بمصرية الجزيرتين، قبل أن يجري التلاعب بالملف في وقت لاحق، وتُمرر صفقة التنازل عن الجزيرتين للسعودية عبر البرلمان.
إسرائيل دولة محتلة وفق القانون الدولي، ومنذ عام 1999 وظّفت كل إمكانياتها للتنقيب عن النفط والغاز قبالة سواحل المياه الإقليمية الفلسطينية، وأطلقت يد الشركات العالمية والاستثمار الأجنبي للعمل في التنقيب والاستثمار، في ظل محاولات للسطو على ثروات وموارد المنطقة من نفط وغاز وغيرها، ومعالجة أزمة ندرة مصادر الطاقة لديها، وقد نجحت بالفعل، والنتيجة تحول إسرائيل من مستوردة للغاز إلى واحدة من كبار مصدري الغاز الأزرق في المنطقة، بعد أن عثرت بالفعل على مناجم ذهب، تمثّلت في حقول تعتبر الأضخم في منطقة شرق المتوسط.
وبموازاة ذلك تواصل دولة الاحتلال السطو على مزيد من حقول إنتاج النفط والغاز في منطقة شرق البحر المتوسط وقبالة سواحل فلسطين ولبنان وسورية، ومن هنا تحول ملف الغاز إلى وقود لصراعات جديدة بين إسرائيل ودول المنطقة، وسط أطماع سياسية وأمنية ومالية واقتصادية لا متناهية لدولة الاحتلال. وربما ما يحدث في غزة الآن صورة مصغرة لما سيحدث في المستقبل.