مصطفى عبد السلام
رئيس قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد"
يومًا بعد يوم يتأكد وقوع مصر في فخ الغاز الإسرائيلي بشكل يهدد أمنها القومي والاقتصادي بشكل مباشر، ويتم وضع رقبة اقتصاد مصر وشعبها تحت سكين دولة الاحتلال التي لا ترحم، وترهن الدولة المصرية مقدراتها وأنشطتها الاقتصادية والصناعية والكهربائية بما يتدفق إليها من غاز دولة الاحتلال وحقوله الواقعة شرق البحر المتوسط، والأخطر فتح الباب على مصراعيه أمام التطبيع الاقتصادي بكل أشكاله والتعامل معه على أنه أمر واقع.
ويومًا بعد يوم يتأكد أن ملف الغاز بات من أوراق الضغط الإسرائيلية على دوائر صنع القرار في مصر، وأن مفتاح تشغيل مئات من مصانع مصر الكبرى وشركات توليد وإنتاج الكهرباء وإنارة الشوارع قد يتم إدارته لاحقا من تل أبيب وليس من القاهرة، وأن حكومة الاحتلال تستطيع شل جزء مهم من قطاع الصناعة المصري وإطفاء حواري مصر وشوارعها متى أرادت، وأنه حتى استقرار الجنيه المصري وسوق الصرف الأجنبي يمكن أن تتلاعب به دولة الاحتلال، فإذا ما أرادت تل أبيب أن تثير القلق داخل سوق العملة وتضغط على الجنيه فإن كل ما عليها هو قطع الغاز الطبيعي عن القاهرة، وبالتالي إرباك المشهد الاقتصادي برمته خاصة أهم قطاعاته وهي الصناعة والطاقة والتصدير، أو حتى التأثير سلبا على التدفقات الدولارية.
أمس، أعلنت إسرائيل إبرام صفقة تاريخية لتوريد الغاز الطبيعي إلى مصر بقيمة 35 مليار دولار. الصفقة تعد الأكبر في تاريخ دولة الاحتلال على الإطلاق. وتأتي في توقيت مريب وحرج وبالغ الحساسية سواء للدولة المصرية أو الراي العام، فإسرائيل تهدد الأمن القومي المصري بشكل مباشر عبر مواصلة حرب الإبادة الجماعية في غزة، وإثارة القلاقل في المنطقة والتي أثرت سلبا على قطاعات حيوية منها قناة السويس والسياحة، وتضغط بشدة لقبول القاهرة بملف التهجير، وتبتز مصر من وقت لآخر بملف الغاز، وتغلق ملف معبر رفح من ناحية الأراضي الفلسطينية، وتمارس سياسة تجويع وتعطيش غير مسبوقة بحق أهالي قطاع غزة لم يعرفها التاريخ القديم أو الحديث.
إبرام تلك الصفقة يطرح العديد من المخاوف التي يجب على صانع القرار المصري تبديدها، وعشرات الأسئلة التي يجب الإجابة عنها وعلى الفور.
***
أول تلك الأسئلة: لماذا إبرام الصفقة مع دولة الاحتلال في هذا التوقيت الحرج بالذات، حيث الرأي العام المصري مشحون ضد كل ما هو إسرائيلي، ولماذا الإصرار أصلا على شراء الغاز الإسرائيلي ولفترات طويلة تصل إلى العام 2040، ولماذا الإصرار على ربط ملف الطاقة المصري بواردات الغاز الإسرائيلية؟
***
ثاني الأسئلة: لماذا لم تلجأ مصر لاستيراد الغاز من دول ومناشئ أخرى صديقة وأقل تكلفة من الناحية المادية والسياسية منها الغاز القطري والجزائري والأميركي والروسي والأذربيجاني والخليجي والأسترالي والكندي والنرويجي والإيراني والماليزي؟ علما بأن هناك عشرات الدول التي تنتظر إشارة من القاهرة لتصدير الغاز إليها وبتسهيلات أفضل في السداد، وأين سياسة تنويع واردات الطاقة التي تحدثت عنها الحكومة المصرية أكثر من مرة في الفترة الأخيرة وقالت إنها تتحرك بسرعة لتحقيقها وعدم الاعتماد فقط على غاز دولة الاحتلال؟
***
ثالث الأسئلة: إذا كانت دولة الاحتلال ابتزت مصر سياسيا وماليا في الفترة الأخيرة خاصة في فترة ما بعد حرب غزة، مرة عبر قطع تدفق الغاز الإسرائيلي في بعض الأوقات وخلال فترات بالغة الحساسية للاقتصاد والشارع المصري، وأخرى عبر التلويح بضرورة زيادة الأسعار وتعديل الاتفاقات المبرمة في العام 2020، فما هو السر وراء الخضوع لتلك الابتزازات المتتالية؟ بل وإبرام اتفاقية جديدة طويلة الأجل تنص على إجراء زيادات ضخمة في الكميات الموردة المتفق عليها بنسبة تصل إلى 30%، ومضاعفة الكميات المصدرة، وتمديد فترة التوريد حتى عام 2040، في خطوة تُعد الأكبر من نوعها في تاريخ صادرات الطاقة بين مصر وإسرائيل.
***
رابع الأسئلة: أين "الجووووون الكبير" الذي حققته مصر في ملف الغاز الإسرائيلي وتحدثت عنه بفخر في العام 2018، وأين ما قيل عن تحول مصر إلى مركز إقليمي لتصدير الوقود الأزرق لأوروبا ودول العالم، وأين الاتفاقات الضخمة مع دول متوسطية مثل قبرص واليونان؟ وأين خطط تعزيز إمدادات الدولة من الغاز لتلبية الطلب المحلي ودعم الخطط التصديرية الإقليمية؟ وأين الحديث عن لعب مصر دورًا محوريًا بما يؤهلها لأن تكون هي قلب المركز الإقليمي لتداول الطاقة في شرق المتوسط؟
وما مصير الاتفاقات الموقعة بين مصر وقبرص لإعادة تصدير الغاز القبرصي وتسويقه ونقل إنتاج حقل الغاز "كرونوس"، وحقل "أفروديت"، إلى منشآت الإسالة المصرية في إدكو ودمياط، قبل تصديره غازًا طبيعيًا مسالًا؟ وأين خطط ربط الحقلين بمرافق حقل "ظهر" المصري؟
***
خامس الأسئلة: أين حقل "ظهر" الذي صنفته الحكومة المصرية على أنه الأضخم في منطقة شرق البحر المتوسط، وأن إنتاجه يحقق الاكتفاء الذاتي، ويكفي تلبية احتياجات الأسواق المحلية، بل وتصدير الكميات الفائضة لسنوات طويلة، وأنه يحتوي على احتياطيات بنحو 30 تريليون قدم مكعبة، أي ما يعادل احتياطيات سلطنة عمان وإسرائيل معا، وهو ما جعله أكبر اكتشاف للغاز في البحر المتوسط كما تردد في فترة ما بعد اكتشاف الحقل في العام 2015. لماذا سكت الكلام عنه، وأين إنتاج الحقول الأخرى التي تعلن الحكومة عن اكتشافها ودخولها دورة الإنتاج من وقت لآخر؟
***
سادس الأسئلة: لتقل لنا الحكومة من أين ستدبر 20 مليار دولار هي قيمة فاتورة واردات الدولة من الغاز الطبيعي المسال عن هذا العام وفق تقديرات وكالة بلومبيرغ الأميركية، وبزيادة تقارب 60% مقارنة بـ12.5 مليار دولار خلال العام الماضي، في ظل تزايد الطلب المحلي وتراجع الإنتاج؟ وهل ستحصل دولة الاحتلال على نصيب الأسد من تلك الأموال الضخمة، وبالتالي تحقق رفاهية الإسرائيليين على حساب المصريين؟
ملف الغاز الإسرائيلي من الملفات المسكوت عنها في مصر خاصة وأنه تحول إلى لغز كبير بات يستعصي فهمه على الكثيرين في ظل طرح نقاط عدة وأسئلة شائكة وعلامات تعجب كثيرة مطلوب تفسيرها فورًا، وللأسف لن تجد من يقدم هذا التفسير السريع للرأي العام المصري أو حتى للمؤيدين للسلطة الحاكمة.