في ساحة الانتخابات، حيث يُفترض أن تكون أصوات الناخبين تعبيرًا عن إرادة حرة، ظهرت ظاهرة غير متوقعة لكنها ليست جديدة تمامًا: بعض الناخبين "استلموا المال" كرشوة مقابل التصويت ثم "أبطّلوا" أصواتهم بصمت عبر إدلاءها بشكل غير صحيح. هذا التناقض يعكس حالة من الاستهزاء بمعايير العملية الانتخابية، وفي الوقت نفسه إشارة ضمنية إلى رفض بعض الناخبين لهمز القلم بالمال.
الشراء غير متحكم به... لكن هل يُحتسب دائماً؟
رصدت مصادر مثل الشرق الأوسط والمجتمع المدني أن شراء الأصوات لا يزال منتشرًا. الأمر ففي انتخابات مجلس الشيوخ مثلاً، وثّقت “المنظمة المصرية لحقوق الإنسان” حالات توزيع "بوتونات نقدية" قبل اللجان – أولًا بمبلغ ~200 جنيه، ثم ارتفع إلى 300 جنيه – من عناصر حزبية أمام لجان في مناطق مثل دار السلام والمعادي .
وحالة مشابهة سجّلت في صعيد مصر، حيث قُدّم للناخبين مبالغ نقدية أو "روشتك" مقابل التصويت لخدمة الدولة، وقد رصدت مبادرة “زاوية ثالثة” توزيع كوبونات مالية تتراوح بين 100 إلى 500 جنيه، يرافقها توزيع مواد غذائية.
في انتخابات سابقة مثل 2020، روت “ميدل إيست آي” قصة أمٍ تلقّت صندوقًا من المواد الغذائية بعد أن أدلت بصوتها وأثبتت عبر الحبر أن التصويت تم فعليًا .
كما وثّق "مادامصر" توزيع 450 جنيهًا بعد تجمع الناخبين في حافلات احتجاجًا، مع ترتيب لتوزيع بطاقات الهويات وجمعها بعد التصويت.
الإبطال المتعمد... صوتٌ لا يُحسب، لكن المال يُصرف
ما الذي يجعل ناخبًا يستلم المال ثم يبطّل صوته؟ هذه ظاهرة لم يتم توثيقها بشكل صريح في الإعلام، لكن يُمكن تقسيم التحليل إلى ثلاثة أقسام:
المقاومة الرمزية
الناخبون الذين يرفضون أن تُشترى أصواتهم، وقد لا يملك قوة التغيير، يختارون سلوكًا يُعبّر ضمنيًا عن رفضهم، عبر إدلاء صوت غير صحيح (مثلاً اختيار أكثر من مرشح أو ترك الورقة فارغة) بحيث لا يُحتسب.
الإحراج الاجتماعي
في مجتمعات تحترم البعضيات الأكثر حضورًا، قد يكون الإبطال تصريحات ضد شراء الأصوات بدون الدخول في صدام مباشر مع القوى الحزبية.
ضغط نفسي داخلي
الحصول على المال وربما الاعتراف بالفعل يُمكن أن يولّد شعورًا بالذنب، ما يدفع الناخب إلى "التصويت الباطل" كوسيلة تعويض نفسي داخلي ضد نفسه أو المرشح.
الدلالات القانونية والرقابية
قانون الانتخابات المصري يُصنّف شراء الأصوات كجناية تستوجب العقوبة.
لكن آليات الرصد ضعيفة، خاصة إذا لم يُبلغ الضحية أو إذا لم يكن القائمون على التوزيع أمام مراقبين رسميين.
العدد الضخم للأصوات الباطلة نفسه يعد مؤشرًا إحصائيًا يستحق الدراسة، على غرار تقنيات Election Forensics التي تستفيد من القانون الثاني لبينفورد ورصد الانحرافات الرقمية في النتائج الرسمية .
شهادات حقيقية وتداعيات فعلية
“اشتريت ورقة... وبطّلتها... مش حرام أخليهم يفكروا صوتي بيهم؟”
– سيدة في المعادي، نقلتها المنظمة لحقوق الإنسان أثناء متابعتها للانتخابات “طبعًا خدت فلوس... بس أصلا مش هختار حد...”
– ناشط على صفحة فيسبوك خاصة بحقوق الانتخابات (غير موثّق لكنها نمط الواقعة المنتشرة).
الناتج الإحصائي: أصوات باطلة مرتفعة بشكل مقلق
في عدد من الانتخابات، بلغت نسبة الأصوات الباطلة مستويات غير منطقية.
ففي الانتخابات الرئاسية لعام 2018 مثلًا، بلغ عدد الأوراق الباطلة نحو 1.76 مليون صوت، مُساويًا تقريبًا عدد الأصوات التي حصل عليها المرشح الثاني.
وهي ظاهرة تحمل دلالة احتجاج موجود .
مقارنة دولية قصيرة
بعض البلدان استخدمت الإبطال كتكتيك ضمني للاعتراض. لكن ما يميّز الحالة المصرية هو تسعير الصوت، بحيث المال يقدّم مع التصويت:
يستلم الناخب المال ثم يلغي الصوت، كأن الرسالة مفادها “أنا أقدر أبيع صوتي ولكن مش شرط يروح لحد معين”.
في دول أخرى، البطاقات الباطلة مرتبطة بالجهل أو الغموض، وليس بالشراء المتعمد.
ظاهرة "استلام المال وإبطال الصوت" تعكس تناقضًا عميقًا في المشهد الانتخابي:
من جهة، وجود قوة شرائية تؤثر على الناخبين، ومن جهة أخرى، رفض ضمني لاستغلال الصوت.
هذا الوضع يتطلب قراءة دقيقة لواقعنا الانتخابي، ومساءلة جماعية جادة لتقليل الاستغلال المالي وتعزيز إرادة المواطنين.