في أحدث اعتراف رسمي، قال رئيس هيئة قناة السويس، الفريق أسامة ربيع، إن الهيئة فقدت 66% من عائدها الدولاري بسبب الحرب في غزة والتوترات في البحر الأحمر، وعلى الرغم من محاولة التخفيف من وقع التصريح بالإشارة إلى استمرار "تطوير الأسطول البحري والمشروعات"، إلا أن الواقع الاقتصادي لقناة السويس يعكس بوضوح حجم التدهور الذي لحق بهذا الشريان الحيوي تحت حكم عبد الفتاح السيسي.
فمن شريان يدر على مصر المليارات من الدولارات سنويًا، إلى مسار نزيف متواصل في الإيرادات وغياب الشفافية والمساءلة.
تراجع الإيرادات.. اعتراف رسمي بالفشل
في يوليو 2024، أكد الفريق أسامة ربيع أن العائدات الدولارية من قناة السويس تراجعت بنسبة 66%، مرجعًا ذلك إلى الحرب في غزة وتصاعد عمليات الحوثيين في البحر الأحمر.
ولكن هذا التبرير، الذي يبدو ظاهريًا مقنعًا، لا يخفي حقيقة أن قناة السويس كانت بالفعل في مسار تراجع قبل اندلاع الحرب في أكتوبر 2023.
وفقًا لبيانات هيئة قناة السويس، بلغت الإيرادات في العام المالي 2021/2022 نحو7 مليارات دولار، ثم ارتفعت في العام التالي إلى 8 مليارات، وهو ما تم الترويج له كنجاح. ولكن منذ منتصف 2023 وحتى منتصف 2024، تراجعت الإيرادات إلى 2.6 مليار دولار فقط، أي بخسارة تقترب من 5.4 مليار دولار في عام واحد.
ما قبل الانقلاب وما بعده: المقارنة تكشف الانحدار
قبل ثورة يناير، وتحديدًا في عام 2010، حققت قناة السويس إيرادات بلغت 5.1 مليار دولار، رغم أن عدد السفن العابرة حينها كان أقل من اليوم، والتوسعات كانت محدودة. أما بعد انقلاب 2013، ورغم افتتاح ما أُطلق عليه "قناة السويس الجديدة" في أغسطس 2015 بتكلفة تجاوزت 64 مليار جنيه (تم جمعها من شهادات استثمار أرهقت المصريين)، لم يتحقق الوعد بأن تتضاعف العائدات لتصل إلى 13 مليار دولار بحلول 2023، كما زعم السيسي مرارًا.
بل إن تقرير البنك الدولي عام 2022 أشار إلى أن "العوائد المتوقعة من توسعة قناة السويس لم تكن على قدر الاستثمار"، مضيفًا أن العوائد الحقيقية جاءت "أقل من المتوقع بكثير".
من قناة عالمية إلى ممر مهدد
أدت التوترات في البحر الأحمر إلى تحول طرق الشحن، لكن معظم المحللين الاقتصاديين يرون أن مصر لم تكن مستعدة للتعامل مع هذا النوع من التحديات، إذ لم يتم تنويع مصادر الدخل من القناة أو تطوير سياسات مرنة لجذب السفن، كما لم تُبذل جهود حقيقية لتأمين مسار الملاحة.
وقال الخبير الاقتصادي ممدوح الولي، نقيب الصحفيين السابق، في تصريح له في يونيو 2024: "المشكلة ليست فقط في التوترات الإقليمية، بل في الإدارة نفسها. قناة السويس تحولت إلى صندوق مغلق لا يخضع للرقابة ولا الشفافية، وكل ما يُعلن عنه مجرد شعارات".
المشروعات "البديلة": إنفاق بلا مردود؟
في محاولة لصرف النظر عن التراجع، تحدث رئيس الهيئة عن "تطوير الأسطول البحري" وتنفيذ "مشروعات مياه وكباري"، وهي تصريحات لم تُرفق بأي أرقام واضحة أو إنجازات ملموسة.
يُذكر أن الهيئة أعلنت في مارس 2023 عن تدشين مشروع لإنشاء 5 قاطرات جديدة بتكلفة تصل إلى 1.5 مليار جنيه، رغم أن الأولوية كانت تتطلب تأمين المسارات البحرية وزيادة الحوافز لعبور السفن.
كذلك، تشير تقارير حكومية إلى أن قناة السويس دخلت في مشروعات لا علاقة لها بالنقل البحري، من بينها مشاريع إسكان وطرق وكباري، وهو ما يُعتبر من قبل خبراء "تشتيتًا للموارد" وانحرافًا عن المهمة الأساسية للهيئة.
ديون على حساب القناة: هل تُرهن سيادتها؟
وفقًا لتقرير وزارة المالية في فبراير 2024، بلغ إجمالي ما تم اقتراضه بضمان قناة السويس منذ 2016 نحو 4.8 مليار دولار، أغلبها من بنوك خليجية ودولية.
ويرى الاقتصاديون أن هذا يهدد سيادة مصر على الممر الملاحي، خصوصًا بعد ما جرى عام 2023 من تأسيس "صندوق قناة السويس السيادي"، الذي يسمح ببيع أصول الهيئة أو تأجيرها، دون رقابة برلمانية أو قضائية.
وقد وصف النائب السابق هيثم الحريري هذا القانون بأنه: "تفريط واضح في السيادة الاقتصادية، وتمهيد لخصخصة القناة تحت مسمى الاستثمار".
البديل الغائب.. أين الخطط؟
في ظل هذا التدهور، تغيب تمامًا عن الساحة خطة وطنية واضحة لإنقاذ قناة السويس، لا توجد استراتيجية لتأمين المسار الملاحي من الحوثيين، ولا توجد تحركات دبلوماسية فعالة لاحتواء آثار الحرب في غزة على الملاحة، والأسوأ، أن الصمت الرسمي تجاه خسائر القناة استمر لأشهر قبل أن يتم الاعتراف بها مؤخرًا.
ووفقًا لتقرير صادر عن مجموعة أكسفورد للأعمال (Oxford Business Group) في مايو 2024، فإن "مصر فقدت مكانتها التنافسية في سوق النقل البحري لصالح ممرات بديلة، مثل طريق رأس الرجاء الصالح والممرات البرية عبر السعودية والإمارات".
قناة السويس بين الأمس واليوم
قناة السويس التي كانت دومًا رمزًا للسيادة الاقتصادية والوطنية، تتعرض اليوم تحت حكم السيسي لتآكل متسارع في أهميتها وجدواها، بفعل سوء الإدارة، وتوظيفها في مشاريع غير مجدية، وتضخيم الإعلام الرسمي للإنجازات دون مردود فعلي.
ومع الاعتراف بالخسائر، يبقى السؤال: هل تكون قناة السويس المقبلة مشروعًا سياديًا لمصر كما كانت، أم ستتحول إلى ورقة تفاوض بيد النظام لسد عجزه المالي؟