منذ حرب غزة وردودها الإقليمية في نهاية 2023، شهدت قناة السويس أزمة مالية حادة لم يشهدها منذ عقود. فتراجعت الإيرادات إلى أقل من النصف، وتحولت القناة التي كانت تعد مصدرًا رئيسيًا للسيولة الأجنبية إلى عبء على الدولة، وسط سياسات حكومية وصفها ممدوح الولي بأنها "رهان مسبق على ورقة واحدة"، بدون رؤية اقتصادية أو حماية أمنية كافية.

 

انهيار الإيرادات مع تراجع المرور أكثر من النصف

أعلن وزير المالية محمد معيط أن قناة السويس خسرت نحو 60% من إيراداتها، وانخفض الدخل السنوي من حوالي 10 مليارات دولار إلى نحو 3.9 مليارات في عام 2024.

بينما رئيس الهيئة أسامة ربيع أكد أن عدد السفن المارة انخفض بنسبة تصل إلى 55%، والحمولات تراجعت بنسبة 66%.

وفي الربع الثالث من العام المالي 2024–2025، حدّدت وزارة التخطيط نسبة التراجع بـ23.1% مقارنة بالعام السابق، وهو تباطؤ إيجابي نسبي بعد انهيار سابق تجاوز 50%.

 

مخاوف أمنية بلا حماية استراتيجية

كشف رئيس هيئة قناة السويس، أسامة ربيع، في تصريحات أن عدد السفن العابرة للقناة تراجع إلى أقل من النصف مقارنة بما كانت عليه قبل اندلاع الحرب في غزة، مشيرًا إلى أن الأوضاع الأمنية في البحر الأحمر أثّرت بشكل مباشر على حركة الملاحة العالمية.

وأوضح أن استهداف الحوثيين لسفينتين تجاريتين خلال الفترة الأخيرة ساهم بشكل إضافي في عزوف عدد من شركات الشحن الكبرى عن استخدام الممر الملاحي، ما أدى إلى انخفاض ملحوظ في أعداد السفن العابرة، وهو ما يعكس التحديات المتزايدة التي تواجهها القناة في ظل التوترات الجيوسياسية المتصاعدة.هجمات الحوثيين المتكررة منذ نوفمبر 2023 على السفن (خاصة المتوجهة لإسرائيل) أدت إلى تغيير مسارات شحن ضخمة حول رأس الرجاء الصالح.

تفضيل كبرى شركات الشحن تفادي المرور بالقناة، رغم تخفيض الرسوم بنسبة تصل إلى 15%، لأن الخوف الأمني لم تعالجه الدولة. كما قال ربيع: "المخاوف الأمنية لشركات الشحن لن يتم التغلب عليها بالخصومات".

 

محاولات تخفيض التعريفة: قُبلة وهمية بلا نفع

رغم تخفيض الرسوم في بداية 2024، إلا أن الخطوة لم تُجد أمام تحولات المسار والمخاوف الأمنية. السفن التي كانت تفكر بالعودة للقناة لم تفعل، والرسوم الجديدة فشلت في استعادة شركات الشحن الكبرى.

وقررت هيئة قناة السويس، الأربعاء الماضي، مد العمل بالتخفيض البالغ 15% من رسوم عبور القناة والممنوح لسفن الحاويات ذات حمولة صافية 130 ألف طن أو أكثر "محملة أو فارغة"، حتى نهاية العام الحالي.

وأوضح رئيس هيئة قناة السويس، أسامة ربيع،، أن القرار يأتي تلبية لمتطلبات العديد من العملاء من ملاك ومشغلي سفن الحاويات، وسعيًا لتشجيع الخطوط الملاحية الكبرى على العودة للعبور من قناة السويس مرة أخرى في ظل الظروف المواتية وما تشهده الأوضاع الأمنية في منطقة البحر الأحمر من استقرار وهدوء نسبي.

 

 الأضرار الاقتصادية المترتبة على الاقتصاد الوطني

هبوط الاحتياطي الأجنبي: انخفاض إيرادات القناة ضرب الاحتياطات، في وقت ارتفع الإنفاق العام وقبول الدولة القروض والتنازلات.

تنامي الدين العام وارتفاع التضخم: تكاليف الخدمات، الاحتياطيات والرواتب تصاعدت، في حين تباطأ النمو الإداري.

فشل التنويع الاقتصادي  بدلًا من الاستثمار في موانئ أخرى أو الصناعة أو التعليم، رُكزت الاستثمارات في القناة كمشروع ذر للرماد في العيون.

 

المشروع فاشل من البداية

من جهته قال الخبير الاقتصادي ممدوح الولي، إن توسعة القناة في عام 2015 كانت بلا مبرر اقتصادي. القناة كانت تستطيع استيعاب 78 سفينة يومياً، بينما المتوسط كان نحو 49 سفينة فقط، مما دليل فقر الطلب.

وكتب أن الخطة بإعلان الدخل بالجنيه المصري** لتجميل الصورة، بينما الإيرادات بالدولار اعلنت تراجعًا.

كما وصف تفريعة القناة بـ"الكارثة"، وقال إنها كلفة شرعية للطموح السياسي وليس الاقتصادي، وأنها أهم أسباب انهيار قيمة الجنيه

ولفت إلى أن امدادات الدولار من التحويلات الخارجية التي بلغت 140 مليار دولار خلال 5 سنوات مقابل 32 مليار فقط من قناة السويس، ما يظهر أن اعتماد الدولة على عوائد القناة هو **فشل استراتيجي في إدارة الموارد

ويعتبر مراقبون أن ما حدث للقناة ليس مجرد انهيار إيرادات، بل هو كشف كامل عن فشل التخطيط المركزي والاقتصاد السياسي للنظام:

  • مشاريع ضخمة تفتقر لدراسة جدوى اقتصادية أو أمنية.
  • عقود الدومينيون والترميم الإعلامي بدل الاستثمار الفعلي.
  • التغطية على الخسائر بإحصائيات منتقاة بالعملة المحلية.
  • الاعتماد المهووس على قناة واحدة بينما التحويلات الأجنبية تُهدر ولا يستثمر جزء منها محليًا.

 

 

أي خطة للخروج؟

وفق الحملات الانتقادية، الحل ليس في بث التطمينات، بل في:

  • تنويع الموانئ وتنمية الصناعة الحقيقية.
  • تنويه مسارات الترانزيت البري والإقليمي الجاد.
  • استثمار المصريين في الخارج بآليات مؤدية فعليًا لدعم الاقتصاد المحلي.
  • إعادة بناء السيادة الاقتصادية بعيدًا عن مركزية نظام واحد.

مصير القناة منذ حرب غزة لم يكن نتيجة ظرف خارجي فقط، بل انعكاس لغياب تخطيط وتحكم استراتيجي. وممّا قاله ممدوح الولي وغيره فإن القناة ليست سبب الأزمة، بل المرآة التي كشفت فشلًا حكوميًا طويلًا، والضرر الذي لا يمكن إصلاحه بإدلاء البيانات التلفزيونية.

تراجع الإيرادات إلى النصف ليس حادثًا عابرًا، بل كشف عن فشل في أساس الحكم الاقتصادي المصري: رهانه على قناة سويس كـ"بقرة حلوب". واستثمار ملايين الدولارات في توسعات شكلية دون حماية استراتيجية، فحمَت القناة كرمز لكنها سقطت كمورد.

إذا لم تُراعى الحكمومة إصلاحات جذرية الآن، فإن الاقتصاد سيبقى رهينة رمزية خاطئة، تأخد من الجوارف ملايين الدولارات، لكن لا تعطي المواطن شيئًا سوى الأزمات والخدمات المتلاشية. الحرية الاقتصادية تبدأ بالاقتصاد، لا بالإعلانات.