في الآونة الأخيرة، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الأخبار المحلية بشكاوى واستغاثات عشرات المواطنين المصريين الذين تعرضوا لعمليات نصب واحتيال في العاصمة الإدارية الجديدة، والتي تُعد "مشروع السيسي الأضخم".
ورغم أن هذه المنطقة تقع تحت إشراف مباشر من رئاسة الانقلاب، وتتبع جهات سيادية، فإن عددًا متزايدًا من المواطنين باتوا يشكون من ضياع أموالهم بعد توقيع عقود شراء وحدات سكنية وإدارية من شركات تبين لاحقًا أنها وهمية أو غير مرخصة.
أحد هؤلاء الضحايا، ويدعى محمد صابر، تحدث في فيديو متداول قائلاً: "دفعت 800 ألف جنيه كمقدم لحجز وحدة تجارية، وبعد أشهر اكتشفت أن الشركة قفلت أبوابها، والمسؤولون اختفوا!" حالات مشابهة ظهرت في تقارير صحفية في مايو ويونيو 2025، منها ما نشره موقع مدى مصر والمنصة، حول تورط ما لا يقل عن 12 شركة تعمل داخل العاصمة الإدارية في وقائع نصب واحتيال موثقة.
لماذا تتكرر حالات النصب في قلب المشروع الرئاسي؟
رغم أن العاصمة الإدارية الجديدة تعتبر من أكثر المشاريع المركزية في عهد قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي، وتخضع لرقابة الأجهزة السيادية على رأسها جهاز الخدمة الوطنية وهيئة المجتمعات العمرانية إلا أن حالات النصب تتكرر بوتيرة مقلقة.
ويعزو مراقبون هذا الخلل إلى غياب الشفافية في آليات منح التراخيص للشركات العقارية، وتواطؤ بعض المسؤولين، فضلًا عن ضعف الرقابة القضائية والإعلامية.
الخبير العقاري الدكتور أحمد البرعي أشار في تصريح له لموقع العربي الجديد (20 يوليو 2025) إلى أن "ما يحدث هو فوضى مقنّعة؛ شركات تحصل على تراخيص دون التزام فعلي بالبناء أو الجدية، وفي ظل غياب المساءلة، المواطن هو الضحية الوحيد".
المواطن.. الضحية الدائمة
المواطن المصري يجد نفسه محاصرًا بين أزمات اقتصادية طاحنة وانعدام الثقة في مؤسسات الدولة، ومع انهيار العملة المحلية ووصول التضخم إلى 36.8% بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في يونيو 2025، يسعى المواطنون للاستثمار في العقارات كملاذ آمن، خصوصًا في مشاريع العاصمة الإدارية التي تروج لها الدولة باستمرار باعتبارها "مستقبل مصر".
لكن بدلًا من الأمان، يجد المواطن نفسه في دوامة من الخداع، وسط غياب واضح لأي تعويضات أو محاسبة للمتورطين.
ويؤكد الناشط الحقوقي نجاد البرعي أن "فساد قطاع العقارات في العاصمة ليس صدفة، بل نتيجة مباشرة لمنظومة تسير بلا رقابة حقيقية، حيث الفساد يضرب جذور كل المؤسسات".
فساد المسؤولين
الأمر الأخطر أن كثيرًا من هذه الشركات المتهمة بالنصب تحظى بتسهيلات من بعض الجهات الرسمية، وتساءل الكاتب الصحفي وائل قنديل في مقال له نشرته "العربي الجديد" في 28 يوليو 2025: "كيف تدخل شركات مجهولة الهوية أو سجلها التجاري منتهي منذ سنوات إلى منطقة يفترض أنها تخضع لإدارة عسكرية مشددة؟ من يسهّل لها الدخول والترويج والبيع؟"
الجواب، كما يراه كثير من المراقبين، يكمن في شبكة من الفساد الإداري والمحسوبيات، حيث تُمنح الفرص والأراضي والتراخيص لأسماء بعينها مرتبطة بمصالح النظام، بينما يتم تجاهل تحذيرات المؤسسات الرقابية أو الشكاوى المتكررة من المواطنين.
وفي الوقت الذي تعاني فيه أسر مصرية من ضياع تحويش عمرها، يظهر قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي في وسائل الإعلام ليتحدث عن "العاصمة الإدارية كرمز لمصر الجديدة"، كما صرح في كلمته خلال افتتاح مشروع الحي الحكومي يوم 3 يونيو 2025.
وواصل السيسي التأكيد أن "ما تحقق في العاصمة إنجاز غير مسبوق"، متجاهلًا التقارير والتحقيقات التي تتحدث عن عمليات نصب واسعة في قلب هذا المشروع.
ويقول الباحث الاقتصادي مصطفى شاهين إن "السيسي لا يستطيع الاعتراف بوجود خلل في مشروع يعتبره تتويجًا لحكمه، ولهذا يتم تجاهل أصوات الضحايا، وتُدفن البلاغات في الأدراج، بينما الإعلام الرسمي يتحدث عن نسب الإشغال الوهمية".
وفي ظل هذا الواقع، يطالب العديد من الحقوقيين والسياسيين بفتح تحقيق مستقل في هذه الوقائع، حيث دعا المحامي خالد علي في منشور له بتاريخ 27 يوليو 2025 على صفحته الرسمية إلى "إنشاء لجنة مستقلة من القضاة والرقابة الإدارية للتحقيق في وقائع النصب، وتعويض المتضررين من صندوق حكومي واضح المصدر".
لكن حتى اللحظة، لا يوجد أي تحرك رسمي جاد، باستثناء بلاغات فردية تقدم بها مواطنون، وغالبًا ما تُقابل بعدم الاهتمام أو التمييع القانوني.
مشروع السيسي يتحول إلى كابوس للطبقة الوسطى
ما يحدث في العاصمة الإدارية لا يمكن فصله عن نمط الحكم العسكري القائم منذ 2013، حيث تُدار المشاريع الكبرى بمعزل عن الرقابة الشعبية أو البرلمانية، ويُروّج لها باعتبارها "منجزات وطنية"، بينما تخفي خلفها شبكة فساد وإهدار للمال العام، وضحايا من المواطنين الباحثين عن أمل وسط الانهيار الاقتصادي.
وفي النهاية.. من سيحمي المصريين من فساد الدولة نفسها؟