تجاوزت منظومة الصحة المصرية في السنوات الأخيرة أزمة حادة تمثلت في تزايد ضحايا الفشل الطبي بشكل لافت، تشير تقارير مؤسسة “ملتقى الحوار للتنمية” الحقوقية إلى وقوع نحو 180,000 خطأ طبي سنويًا بمصر، مع شطب نحو 20 طبيباً من النقابة سنويًا على خلفية هذه الأخطاء.
في تقرير صدر نهاية عام 2021، رصدت الجهات الرقابية 16 حالة وفاة و5 حالات عاهة مستديمة بسبب الإهمال الطبي في فترة شهور معدودة؛ بلغ نصيب المستشفيات الخاصة 47% من الحالات، بينما سجلت المستشفيات العامة 38%، ومستشفيات التعليم 15%.
والجراحة تتصدر قائمة الأسباب، حيث سُجلت 16 حالة إهمال طبي في التخصص الجراحي، تليها النساء والتوليد والباطنة ثم المخ والأعصاب والعظام والأطفال.
هذا التوزيع يكشف عن أن الإهمال لا يقتصر على المؤسسات الحكومية فحسب بل يشمل القطاع الخاص الذي يفترض فيه تقديم رعاية طبية أفضل.
تدهور كوادر القطاع الصحي وهجرة الأطباء
الأزمة لا تقتصر على الإهمال، بل تمتد لنزيف الكوادر الطبية ذاته، تشير أرقام نقابة الأطباء والجهاز المركزي للإحصاء إلى أن مصر تُعاني عجزًا خطيرًا، حيث يعمل في مصر ما بين 110 إلى 120 ألف طبيب فقط من إجمالي 260 ألفًا مسجلين بالنقابة، أي أن أكثر من نصف الكوادر إما هاجرت أو اتجهت للقطاع الخاص.
بلغ عدد الاستقالات بين الأطباء عام 2022 ما يقرب من 4,200 استقالة وزادت إلى 7,000 استقالة بحلول 2023، بمعدل 12 استقالة يومية.
ويعود ذلك إلى انخفاض الرواتب بشكل كبير، البيئة الطاردة للتدريب، وغياب التأمين على حياة الأطباء، وهو ما ينعكس بالنهاية على رعاية المرضى وكفاءة التدريب.
في مواجهة تصاعد الأخطاء الطبية، طالب الأطباء بتعديلات عاجلة في القوانين لتحسين منظومة الخدمة، واعترضت نقابة الأطباء على مشروع قانون المسؤولية الطبية المعروض حالياً في البرلمان، خصوصًا مواد عقوبة الحبس للأطباء على الأخطاء المهنية.
يؤكد د. أسامة عبد الحي، نقيب الأطباء: “القانون لا بد أن يحمي الأطباء والمرضى في آن واحد”، محذرًا من تصاعد هجرة الأطباء إذا لم يحدث توازن بين مساءلة الطبيب وتوفير بيئة عمل كريمة.
بينما أوضح د. خالد أمين، أمين عام مساعد نقابة الأطباء، أن النقابة تتلقى بشكل يومي شكاوى واستقالات بسبب الضغط النفسي والمادي والاعتداءات المتكررة داخل المستشفيات العامة.
الغش في الثانوية العامة.. الجذور الخفية للفشل الطبي
لا يمكن فصل أزمة الفشل الطبي عن ظاهرة الغش والتعليم المتردي، فقد انتشرت في لجان الثانوية العامة حالات غش جماعي بشكل كارثي خلال السنوات الأخيرة، تشمل تسريب الأسئلة وشراء لجان بأموال طائلة.
وصرّحت النائبة ألفت المزلاوي أن أكثر من 60% من طلاب كلية طب أسيوط رسبوا، وأن هناك قرارات من دول عربية بتعليق اعتماد خريجي الطب من مصر بسبب تدني النتائج.
وأشارت إلى أن التعليم العشوائي والغش يدمّران “أقدس المهن”، مما انعكس على كفاءة خريجي كليات الطب وجودة الرعاية الصحية التي يتلقاها المواطن.
فاجعة مستشفى قصر العيني.. الطالبة "ملك" تفقد حياتها بسبب تشخيص خاطئ
في 28 يوليو 2025، شهدت مستشفى قصر العيني الجامعي بالقاهرة حادثة مأساوية بوفاة الطالبة الجامعية ملك خالد عبد الرحيم، البالغة من العمر 21 عامًا، بعد دخولها المستشفى تشكو من آلام حادة بالبطن.
وفقًا لشهادة ذويها، تم تشخيص حالتها على أنها "نزلة معوية بسيطة"، وتم صرف بعض المسكنات فقط، رغم وجود مؤشرات حيوية خطيرة.
بعد أقل من 10 ساعات، دخلت "ملك" في غيبوبة تامة نتيجة انفجار الزائدة الدودية وانتشار التسمم بالجسد، ليُعلن عن وفاتها فجر اليوم التالي.
أثار الحادث موجة غضب عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأعاد للأذهان عشرات الحالات المشابهة التي تعكس انهيار النظام الطبي، لا سيما في المستشفيات التعليمية التي من المفترض أن تكون مراكز مرجعية.
الإهمال يقتل "أحمد" في مستشفى المنصورة الدولي.. ضحية جديدة لسوء الإدارة
لم تكن وفاة "ملك" الحالة الوحيدة، ففي 25 يوليو 2025، لقي الشاب أحمد مصطفى عبد العال (32 عامًا)، مصرعه في مستشفى المنصورة الدولي، بعد أن دخل المستشفى إثر إصابته في حادث دراجة نارية، لكنه بقي لأكثر من ساعتين بلا تدخل جراحي.
طبقًا لرواية أسرته، فقد تم تحويله من الطوارئ إلى الأشعة دون تثبيت الكسور أو إجراء فحوص عاجلة للصدر، وهو ما أدى لاحقًا إلى نزيف داخلي حاد لم يتم التعامل معه إلا بعد فوات الأوان.
تصريحات شهود عيان من الفريق الطبي أكدت وجود نقص في الأطقم المناوبة وتزاحم المرضى، بالإضافة إلى تعطل بعض الأجهزة الحيوية.
وكذلك نورزاد محمد هاشم (23 عامًا) توفيت في مستشفى خاص شهير بالقاهرة يوم 8 يوليو 2025، دخلت المستشفى لإجراء دعامة بالقناة المرارية باستخدام المنظار، لكن خطأً جراحيًا أدى إلى ثقب في الإثنى عشر وتسرب للسموم في الدم.
لم يتدخل الأطباء في الوقت المناسب، فدخلت في غيبوبة تامة أسبوعين قبل وفاتها بعد توقف القلب 45 دقيقة وتلف المخ نتيجة نقص الأكسجين.
أيضاً وفاة زوجة داعية مصري (2023): اتهم زوجها أحد المستشفيات الخاصة بالتسبب في وفاتها نتيجة خطأ طبي فادح أثناء إجراء عملية جراحية، حيث تم نسيان أدوات جراحية داخل بطنها وتسبب ذلك بتلوث حاد انتهى بوفاتها.
هذه الحالة سلطت مجددًا الضوء على ملف الأخطاء الطبية، إذ أكّد التقرير أن تسارع الأخطاء يعود لغياب الرقابة وانشغال المستشفيات بجمع الأرباح، وقد لا يجد الضحية طريقًا للعدالة بسبب نقص الاهتمام القضائي والاجتماعي.
أسباب وتداعيات الأزمة
- تدني أجور الأطباء والعاملين في القطاع الصحي أدى لعزوف الكثيرين عن العمل الحكومي والبحث عن فرص في الخارج، مما خلق فجوة كبيرة بين الاحتياجات الصحية الفعلية وعدد الأطباء المتاحين.
- انتشار الغش وتدني جودة التعليم الطبي جعلا الكثير من الخريجين غير مؤهلين عمليًا لقبول مسؤولية العلاج، نتيجة ضعف التدريب والاعتماد على امتحانات نظرية يشوبها فساد.
- ضغط العمل وتكدس المرضى في مستشفيات تحتضر ماليًا وإداريًا باتت ترزح تحت ضغط يفوق طاقاتها مع بيئة عمل متردية تفتقر لمقومات المعايير الدولية.
الفشل الطبي الذريع في مصر اليوم هو نتيجة منظومة متكاملة من الإهمال المؤسسي، وسوء جودة التعليم، وهجرة الكفاءات الطبية بسبب ظلم الأجور وقوانين غير متوازنة.