تشير تقديرات رسمية وتقارير اقتصادية إلى أن السوق الدوائي في مصر عاود النمو بقوة في 2025، مدفوعًا أساسًا بارتفاع الأسعار، وليس من زيادة في الكميات المستهلكة.
وتشير البيانات المتوافرة إلى أن إنفاق المصريين على الأدوية خلال النصف الأول من عام 2025 بلغ نحو 140 مليار جنيه، وهو رقم كبير يعكس حجم المعاناة الاقتصادية.
إنفاق المصريين على الأدوية في النصف الأول من 2025
بحسب تصريح رئيس هيئة الدواء المصري، ومقارنات السوق التي أوردتها "بيزنس توداي مصر"، سجلت مبيعات القطاع الدوائي في الربع الأول من عام 2025 نحو 96 مليار جنيه، بنمو قياسي يبلغ 57 % مقارنة بالفترة نفسها من 2024، في حين ارتفع حجم الوحدات المباعة بنسبة طفيفة (حوالي 6 %) .
إذا افترضنا أن الربع الثاني شهد أداءً قريبًا من الربع الأول، ومع استمرار الضغوط التضخمية والزيادات الحتمية، فإن إجمالي الإنفاق في النصف الأول من 2025 يُقدَّر بحوالي 140 مليار جنيهوذلك كنتيجة رئيسية للارتفاعات السعرية وليس لانفجار في الاستهلاك.
نظرة إلى عام 2024: الإنفاق والسياق الاقتصادي
شهد عام 2024 نموًا سنويًا بلغت نسبته 42 %، في المبيعات الدوائية، وبلغت قيمة السوق نحو 292 مليار جنيه، بحسب تقديرات "بيزنس توداي" .
بينما أشار مركز المعلومات واتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء إلى توقعات برفع حجم السوق إلى 152.8 مليار جنيه، في نهاية 2024، بعد أن كان 138.1 مليار جنيه في 2023 .
هذا النمو كان مدفوعًا بالأساس بارتفاع الأسعار، وليس بزيادة في الوحدات المستهلكة؛ وهو ما يؤكده تراجع حجم الوحدات المباعة بنسبة حوالي 3 % في 2024 على الرغم من ارتفاع القيمة الإجمالية]).
لماذا ارتفع الإنفاق رغم ثبات أو تراجع أعداد الوحدات؟
أ. ضغط التكاليف وسياسات التأعير الحكومية
قررت هيئة الدواء المصرية في النصف الثاني من 2024 رفع أسعار أكثر من 1,600 دواء بنسبة 25‑30 %، وبعض المدرجات ارتفع سعرها بنسبة تصل إلى 50 %، في ثلاث مراحل لتدارك أثر انخفاض قيمة الجنيه وتأمين عمليات الإنتاج والإمداد.
هذه السياسات جاءت ردًا على الضغوط الخارجية: انخفاض قيمة الجنيه من نحو **EGP 30.9 إلى 49‑50 مقابل الدولار وارتفاع كلفة الاستيراد من أسيا، والتكاليف الإضافية للشحن بسبب تعطل قناة السويس .
ب. الإنفاق خارج حصانات التأمين وتراجعه
يعتمد أكثر من 60 % من مصروفات الرعاية الصحية على النقود مباشرة (Out-of-Pocket) ، بحسب البنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية، أي أن جزءًا كبيرًا من المستهلكين يدفع مباشرة من دخله دون تغطية تأمينية.
هذا النموذج دفع الأسرة المصرية إلى دفع المزيد رغم ثبات أو انخفاض حجم الاستخدام، حتى مع تراجع القدرة الشرائية في ظل تضخم يتجاوز 28 % في 2024، و18 % متوقعة في 2025.
ج. احتكار السوق وتقييد المنافسة
تسيطر عدد محدود من شركات التوزيع الكبرى (مثل Ibnsina Pharma) على أكثر من 30 % من السوق، وهو ما يعزز سلطة التسعير ويحجب المنافسة الحقيقية .
وقد أدى ذلك إلى قدرة الشركات على تمرير التكاليف بالكامل إلى المستهلكين، حتى إن بعض الأدوية أصبحت تُباع بأسعار أكبر بكثير من قدرتها الإنتاجية.
الربط بين إنفاق 2025 وارتفاع الأسعار
يمثل رقم 140 مليار جنيه في النصف الأول من 2025 علامة على استمرار زخم الأسعار، بمعنى أن المواطن لم يستفد من تحسن ظاهري في الاقتصاد أو انخفاض في تكلفة الأدوية، بل العكس يحدث: المستهلك يدفع أكثر مقابل نفس الكميات.
المقارنة مع السوق العام في 2024 (292 مليار جنيه) تعكس نمطًا تضخميًا يمتد إلى عام 2025، رغم توقع بقاء الأسعار مستقرة وفق تصريحات مسؤولي القطاع في بداية 2025 .
علاقة الأسعار بسعر صرف الدولار
الرابط الاقتصادي واضح: ارتفاع تكلفة استيراد المواد الخام دفع الشركات لطلب زيادات تصل إلى 50 % على بعض الأصناف، وهو ما وافقت عليه الهيئة لضمان استمرارية الإمداد والصناعة المحلية .
بالمقابل، تباطأت صادرات الدواء (بسبب التركيز على السوق المحلي)، وتقلصت الواردات الطبية بنحو 14 % في 2024، واستقرارًا نسبيًا في 2025 عند نحو 3 مليارات دولار .
الآثار الاجتماعية والصحية
ارتفاع الإنفاق الدوائي أثقل كاهل الأسر، خاصة منها الفقيرة التي تدفع من دخلها المحدود كثيرًا في الأدوية الضرورية.
بعض المرضى اضطروا لتقليل تناولهم للأدوية أو البحث عن بدائل أرخص أو نقل العلاج خارج المستشفيات العقارية. وهذا خطر صحي حقيقي على رموز الأمراض المزمنة.
كما أشارت تقارير إلى أن بعض الأدوية الأساسية، كالأنسولين وأدوية الضغط والسكري، شهدت نقصًا حادًا رغم ارتفاع الإنفاق العام بسبب ضعف الإنتاج المحلي وتأخر استيراد المواد الفعالة .
دلالات الانفاق
الكشف العملي عن رقم الإنفاق (140 مليار جنيه في النصف الأول من 2025) يدل على أن المستهلك المصري أصبح يدفع أكثر وإن كان يستخدم نفس الكميات تقريبًا، وهو إنذار بضرورة تغيير السياسات لتقليل العبء.
يجب أن تُرفق هذه الأرقام بدراسات حول دعم الأدوية للمواطنين ذوي الدخل المحدود، وتحسين التأمين الصحي الشامل، وضمان توفير الدواء بسعر عادِل.
ارتفاع الإنفاق لا يعكس أمرًا إيجابيًا، بل هو نتيجة تضخم غير محكوم، وسياسات تأقلم غير فعّالة مع الأزمة.
شهادات حية من المواطنين تم نقلها من عدة مواقع صحفية:
ورغم ضخامة السوق الدوائي في مصر، فإن غالبية المستهلكين يعانون من صعوبة في شراء الأدوية الضرورية، خاصة مع موجات ارتفاع الأسعار، وغياب أدوية التأمين أو نقصها في الصيدليات الحكومية.
في جولة ميدانية قام بها أحد الصحفيين في أحياء الجيزة وحي شبرا ومناطق ريفية في المنوفية، عبّر المواطنون عن مزيج من الغضب واليأس:
هدى عبد اللطيف، موظفة إدارية من شبرا، 42 سنة، تعول والدتها المريضة بالسكر والضغط: "الدواء بقى أغلى من الأكل. أنسولين والدتي ارتفع من 140 جنيه إلى 280. والصيدلي بيقولي مفيش تأمين بيوفره دلوقتي، والبديل لازم تدفعي كاش. مين يقدر؟"
محمود عبد الجواد، عامل يومية من أطفيح: "عندي حصوة في الكلى، الدكتور كتبلي علاج ب400 جنيه. عملت الأشعة ومشيت، ومشيت من غير علاج. بندفع كشف، وبنبطل علاج!"
سعاد متولي، ربة منزل من ريف المنوفية: "ابني عنده صرع. العلبة اللي كنت بجيبها بـ90 جنيه، دلوقتي بـ190، ومش بلاقيها في كل الصيدليات. يعني ممكن الولد يدخل في نوبة وأنا مش لاقية العلاج!"
هذه الشهادات تعكس أن ارتفاع الإنفاق القومي لا يعني توافر الأدوية أو تحسن صحة المواطن، بل قد يخفي مآسي تتفاقم بصمت.
مقارنة دولية: هل المصريون يدفعون أكثر نسبيًا؟
وفقًا لتقارير منظمة الصحة العالمية (WHO) والبنك الدولي، فإن: مصر واحدة من أعلى الدول في الشرق الأوسط من حيث نسبة الدفع المباشر Out-of-Pocket في الإنفاق الصحي، حيث يتحمّل المواطن ما بين 60‑65٪ من تكلفة العلاج، في حين أن المتوسط العالمي هو أقل من 40٪.
في تركيا، يتحمل المواطن أقل من 20٪ من كلفة الأدوية بسبب التأمين الشامل والدعم الحكومي المباشر.
في تونس، هناك تغطية تأمينية لأكثر من 70٪ من تكلفة الأدوية الأساسية.
أما في لبنان، رغم الأزمة الاقتصادية، فإن الحكومة ما زالت تدعم أدوية الأمراض المزمنة بنسبة تصل إلى 80٪.
هذه المقارنات تظهر أن المواطن المصري يُعد من أكثر مواطني المنطقة تعرضًا للضغط الدوائي المباشر، رغم أن مصر تُنتج محليًا أكثر من 85٪ من احتياجاتها الدوائية.
شهادات الأطباء والصيادلة
ويقول أحد الأطباء: "نصف المرضى لا يكملون العلاج"
كما قال د. أحمد فؤاد، استشاري الأمراض الباطنة في مستشفى القصر العيني: "نسبة كبيرة من المرضى توقفوا عن شراء الدواء بعد أول كشف. بنواجه يوميًا حالات بيكون فيها المريض عارف العلاج، لكنه مش قادر عليه، وده بيؤدي لمضاعفات خطيرة."
ويضيف: "الصيادلة كذلك بيشتكوا من زبائن بيرجعوا الأدوية أو بياخدوا نصف الشريط فقط. إحنا بنمشي على حد سكين اسمه الفقر."
وفي النهاية إذا كانت الدولة تتحدث عن نمو سوق الدواء كمؤشر إيجابي، فإن الواقع الاجتماعي يقول غير ذلك. المواطن البسيط لا تهمه الأرقام إذا كانت صحته على المحك. فزيادة الإنفاق القومي على الأدوية لا تُعد إنجازًا، إن كانت ناتجة عن ارتفاع الأسعار فقط دون تحسين الخدمات أو إتاحة أدوية أساسية بأسعار عادلة.
ما يحتاجه المواطن ليس فاتورة دواء أكبر، بل دواء في متناول اليد، بلا إذلال ولا إفلاس.فإنفاق المصريين على الأدوية، والذي يُقدّر بحوالي 140 مليار جنيه في النصف الأول من 2025، هو مؤشر صريح على تحمّل المواطن عبء اقتصادي أثقل بسبب ارتفاع الأسعار وليس تحسنًا في الاستهلاك.
هذه الظاهرة تسلط الضوء على فشل التوازن بين سياسات التسعير، ودعم الإنتاج المحلي، والرقابة الفعلية، بما يجدر تعديله سريعًا لضمان إمكانية حصول المرضى على أدويتهم دون أن يكون ذلك على حساب لقمة الخبز.