شهد الجنيه المصري مؤخرًا ارتفاعًا أمام الدولار بنسبة 2.5% منذ بداية شهر يوليو الجاري، في خطوة وصفتها حكومة السيسي بأنها "انطلاقة اقتصادية جديدة" ستنعكس – حسب تصريحاتها – على تراجع الأسعار وضبط معدلات التضخم خلال الفترة المقبلة. لكنّ ما يحدث على أرض الواقع في الحقيقة هو انتحار اقتصادي برأي خبراء.

فرغم هذه القفزة المفاجئة في قيمة العملة، لا تزال أسعار السلع والخدمات تواصل ارتفاعها دون هوادة، بل تسير في اتجاه معاكس لما يأمله المواطنون. المعتاد تاريخيًا أن ارتفاع الدولار أمام الجنيه كان ينعكس مباشرة على أسعار السوق، لكن ما يحدث الآن يثير الحيرة، إذ أن انخفاض الدولار لم يؤدِّ إلا إلى مزيد من الغلاء، حتى في المواد الأساسية.

ويعيش المستهلك داخل حلقة تضخم لا تنتهي، في ظل صمت حكومي وتخبط تشريعي يضفي الشرعية على الغلاء، بدلًا من مكافحته، وفقًا لـ"العربي الجديد".

 

قرارات حكومية تفتح أبواب الغلاء

قبل انتهاء الدورة البرلمانية، أقر مجلس النواب حزمة من التعديلات والقوانين التي تمهد لزيادات جديدة في أسعار السلع والخدمات. من أبرزها تعديلات قانون الضريبة المضافة، والتي سمحت برفع أسعار التبغ على مرحلتين بنسبة إجمالية تبلغ 27% خلال عام واحد، وفرض ضريبة جديدة بنسبة 10% على البترول الخام.

كما تضمنت الموازنة العامة للدولة خفضًا في الدعم الموجه للمحروقات والكهرباء بنسبة تصل إلى 50%، وهو ما يعني تحميل المواطن فاتورة هذا التقليص مباشرة، سواء في تكلفة النقل أو إنتاج السلع أو استهلاك الكهرباء.

تبرر الحكومة هذه الإجراءات بالظروف الإقليمية المتوترة وارتفاع تكلفة الاستيراد، بالإضافة إلى انخفاض عوائد قناة السويس وتراجع الصادرات. بينما تؤكد المعارضة البرلمانية أن هذه الإجراءات تفتقر إلى البعد الاجتماعي، وتعكس سياسة تقشفية غير عادلة.

 

قطاع الأدوية في خطر

في تطور خطير، طالبت شعبة الأدوية في اتحاد الغرف التجارية برفع أسعار 1000 صنف دوائي بنسبة لا تقل عن 10%، مبرّرة ذلك بارتفاع تكاليف التشغيل، من كهرباء ووقود، وزيادة الرسوم الحكومية، وارتفاع تكلفة استيراد المواد الخام، التي تمثل 92% من مدخلات الإنتاج في القطاع.

وأكدت مصادر من شركات دواء كبرى أن تلك الزيادات أصبحت ضرورية في ظل استمرار تراجع الجنيه على مدار السنوات الأخيرة، وأشارت إلى أن هيئة الدواء المصرية تدرس بالفعل زيادة أسعار 400 منتج دوائي كمرحلة أولى.

أما مدير المركز المصري للحق في الدواء، محمد فؤاد، فقد كشف أن أسعار نحو 100 صنف طبي ارتفعت فعليًا منذ بداية يوليو، بنسبة تراوحت بين 30% و60%، وشملت أدوية حيوية مثل المضادات الحيوية وألبان الأطفال وكريمات علاجية أساسية.

 

فوضى الأسعار تضرب الأسواق

في المقابل، لا تقل الأسواق الشعبية اضطرابًا. فقد ارتفعت أسعار الأسمدة بنسبة 40%، وبلغ سعر طن اليوريا 34 ألف جنيه مقارنة بـ23 ألفًا فقط قبل أسابيع، نتيجة أزمة انقطاع الغاز الطبيعي عن مصانع الأسمدة.

كما سجلت أسعار مواد البناء ارتفاعًا ملحوظًا، متأثرة بزيادة أسعار المازوت والنقل. وشهدت المنتجات الغذائية تفاوتًا كبيرًا في الأسعار بين المناطق، وصلت نسبته إلى 20%، وسط غياب شبه كامل للرقابة الحكومية أو دور منظمات حماية المستهلك.

ولم تسلم الأطعمة الشعبية من الغلاء، إذ ارتفع سعر سندويش الفلافل بنسبة 40%، وقفز سعر طبق الكشري في أغلب المطاعم بنسبة تتراوح بين 10% و20%، بفعل زيادة أسعار الزيوت والبقوليات والمعجنات.

 

خبراء: تحسّن العملة شكلي ومؤقت

يرى أستاذ الاقتصاد بجامعة المنوفية، الدكتور محمد البنا، أن تحسّن الجنيه في الوقت الحالي يعود إلى مرونة سعر الصرف المعتمدة من البنك المركزي، وارتفاع تدفقات العملات الأجنبية، خاصة من السياحة وتحويلات المصريين بالخارج. لكنه يوضح أن هذا التحسن لن يدوم إلا إذا دعمته أسس اقتصادية حقيقية، مثل ارتفاع الإنتاج المحلي وزيادة الصادرات المباشرة.

ويحذر خبراء من أن استمرار العجز التجاري، الذي بلغ 28 مليار دولار (باستثناء النفط)، يمثل تهديدًا حقيقيًا للجنيه في الأشهر المقبلة، خاصة مع توقعات بتراجع إيرادات قناة السويس التي هبطت بنسبة 54.1% بسبب الحرب في غزة.

في هذا السياق، أشار منصف مرسي، رئيس قطاع البحوث في "سي آي كابيتال"، إلى أن التحسّن الظاهري للجنيه قد لا يصمد طويلًا، لأنه يستند إلى عوامل غير مستدامة مثل الأموال الساخنة والاستثمار في أدوات الدين، محذرًا من عودة الضغوط على العملة في حال تراجع تلك التدفقات.

 

انتحار اقتصادي... وغياب العدالة

أمام هذه الفوضى، دعا عضو اتحاد الغرف التجارية، حازم المنوفي، الحكومة إلى التدخل المباشر وفرض تسعيرة جبرية على عدد من السلع الأساسية، مؤكدًا أن ترك السوق للمضاربة أفرز "حرية وهمية"، مكنت بعض الفئات من احتكار الأسعار وتهميش المؤسسات الصغيرة، ودفع المستهلكين إلى حافة الانهيار.

ويختتم المنوفي تصريحه محذرًا: "ما يحدث حاليًا هو انتحار اقتصادي وعدالة اجتماعية مفقودة. لا بد من تدخل الدولة لضبط السوق، وإعادة التوازن بين حرية التجارة وحق المواطن في حياة كريمة".