من شرفة منزلها الكائن في الطابق التاسع، والمطلّة مباشرة على مياه البحر المتوسط، تراقب إيمان مبروك مشهدًا مألوفًا يتغير أمام عينيها يومًا بعد يوم، شريط الرمال الذي كان يومًا ملعب طفولتها ومتنفس أهل حيها، بات يتقلص بشكل مخيف، البحر يقترب، والرمال تتلاشى، والمدينة التي حملت عبق التاريخ تحوّلت إلى مرآة لهشاشة الحاضر.
“الرملة تآكلت جدا، يمكن حوالي 30% من المساحة القديمة اختفت”، تقول إيمان، وهي تشير إلى الخط الساحلي الذي لم يعد كما كان لا تُخفي قلقها من المستقبل، ليس فقط على ذكريات الطفولة التي تبتلعها المياه، بل على أساسات العمارة التي تسكنها، والتي تعاني من التشققات ومظاهر التآكل.
أزمة تتصاعد.. الإسكندرية تحت التهديد
الإسكندرية، ثاني أكبر مدن مصر، وأحد أبرز موانئ البحر المتوسط، تواجه اليوم أزمة مركبة تهدد بنيتها التحتية وحياتها اليومية وحتى وجودها الجغرافي.
ارتفاع منسوب مياه البحر، وتآكل السواحل، وتسرب المياه المالحة إلى التربة، عوامل مجتمعة تؤدي إلى تآكل الأساسات وتهديد مئات المباني القديمة والحديثة على حد سواء.
دراسة علمية حديثة أعدها فريق بحثي بقيادة العالم المصري عصام حجي – المتخصص في علوم المياه بجامعة ساوثرن كاليفورنيا – كشفت عن انهيار نحو 40 مبنى سنويًا في الإسكندرية، مقارنة بمعدل كان لا يتجاوز مبنى واحد سنويًا قبل عقد من الزمن.
وبحسب الدراسة، فإن ساحل الإسكندرية يتراجع بمعدل 3.5 أمتار سنويًا، ما يجعل المدينة في قائمة المدن الأكثر تعرضًا للخطر على مستوى حوض البحر المتوسط.
“المباني تتآكل من الأسفل إلى الأعلى، والملوحة تهاجم الخرسانة والطوب من الجذور”، يشرح حجي، في إشارة إلى الكارثة الزاحفة التي لا تملك الإسكندرية رفاهية تجاهلها.
“شروخ حديثة”.. انهيارات مفاجئة ومعالجات غير كافية
ما يؤكده العلماء يراه السكان كل يوم، بل ويشعرون به في جدران منازلهم. إيمان نفسها اضطرت في وقت سابق إلى مغادرة شقتها السابقة بسبب “ميل مفاجئ في المبنى”، وتقول: “كنا حاسين إن كل حاجة بتجري، كأن الأرض نفسها بتميل”.
الوضع ليس حادثًا فرديًا. رئيس الوزراء مصطفى مدبولي أعلن – خلال زيارته للإسكندرية في منتصف يوليو الجاري – أن أكثر من 7500 مبنى صُدر بحقها قرارات إزالة فورية، وأن المدينة بحاجة إلى 55 ألف وحدة سكنية بديلة لتوطين السكان المتضررين من انهيارات أو تصدعات العقارات.
وقال مدبولي: “مفيش يوم بيعدي إلا وفيه انهيار جزئي أو كلي لعقار قديم”، مشيرًا إلى خطورة الأزمة التي باتت تتكرر بوتيرة متصاعدة، لا سيما في مناطق كالعطارين والمنشية ومحيط كورنيش البحر.
ورغم الجهود الحكومية التي شملت إنشاء 9 حواجز خرسانية غاطسة في مياه البحر، وردم بعض الشواطئ لتعويض الرمال المفقودة، فإن الأضرار على الأرض تزداد، وسط شكوك واسعة بين السكان في فاعلية الحلول المؤقتة.
يقول أحمد العشري، أحد سكان المدينة: “الشروخ اللي بتظهر دلوقتي مختلفة.. دي شروخ حديثة وسريعة، مش بتاعة الزمن ولا التهالك العادي.. إحنا بنتكلم عن انهيارات بتحصل فجأة وبدون سابق إنذار”.
مفارقة: الخطر يتصاعد.. والعقار لا ينهار!
ورغم التحذيرات والمخاوف المتصاعدة، فإن سوق العقارات في الإسكندرية لا يزال في ازدهار لافت. أسعار الشقق المطلة على البحر لا تتراجع، وحركة البيع والشراء لم تتباطأ. بحسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء، فإن عدد سكان الإسكندرية قفز إلى 5.8 ملايين نسمة خلال 25 عامًا فقط، بفعل تدفقات العمالة الداخلية وتوسع مناطق الامتداد العمراني.
المفارقة أن المناطق الأكثر عرضة للخطر – مثل منطقة بحري والأنفوشي وسيدي جابر – تشهد أكبر معدلات الطلب على الإيجارات والشراء، بسبب الإطلالات البحرية وقربها من الخدمات.
شادي مصطفى، صاحب مقهى على كورنيش المدينة، يقول إن السكان باتوا أكثر وعيًا، لكنهم لا يملكون خيارات كثيرة: “دلوقتي الدولة عاملة حسابها من قبل ما المصايب تحصل، والناس عندها أمل إن الحواجز تنفع”.
بين الأمواج والهواجس.. سباق مع الزمن
المشهد في الإسكندرية لم يعد متعلقًا بجمال البحر أو رائحة الملح، بل بات معركة مستمرة مع التغير المناخي وسوء التخطيط العمراني وتحديات البنية التحتية.
بين كل موجة بحر تتقدم، وتشققات تظهر في جدار جديد، يعيش أهالي المدينة حالة من الترقب والتوتر، توازنها فقط محاولات حكومية متأخرة لتطويق الأزمة.
وفيما لا تزال مشروعات التحصين البحرية قيد الإنشاء، يبقى السؤال الأكبر معلقًا في الأفق: هل تلحق الدولة بمدينتها قبل أن تبتلعها المياه؟
الإسكندرية، التي حملت لقب “عروس البحر المتوسط” لمئات السنين، تقف اليوم على حافة الغرق، تصارع الزحف المائي، وتقاوم الانهيار، بين الحنين إلى ماضٍ صلب، وخوف من مستقبل قد لا يحمل اليابسة.