في وقت تتباهى فيه وزارة النقل بحكومة الانقلاب بمشروعاتها القومية العملاقة في العاصمة الإدارية والساحل الشمالي، تبقى قطارات الصعيد شاهدًا صارخًا على الإهمال والتمييز، فقد شهدت الأشهر الماضية تصاعدًا في شكاوى المواطنين من تدهور الخدمة في خطوط سكك حديد الصعيد، تأخيرات متكررة، وتكدس غير آدمي، وأعطال متواصلة، وسط شكاوى من إلغاء رحلات وتوجيه القطارات الحديثة لخطوط الوجه البحري فقط.
ووفق تقارير صادرة عن الجهاز المركزي للمحاسبات، فإن نحو 70% من العربات المخصصة لخطوط الصعيد متهالكة وتعمل منذ أكثر من 30 عامًا، رغم إعلان وزارة النقل عن تجديد الأسطول.
وأفادت بيانات هيئة السكة الحديد أن من أصل 1300 عربة جديدة تم توريدها بين 2020 و2023، لم يُخصص للصعيد سوى 170 عربة فقط، أي ما لا يتجاوز 13%، بينما خُصص الباقي لخطوط القاهرة – الإسكندرية والوجه البحري.
ارتفاع متوسط تأخيرات القطارات إلى 60 دقيقة يوميًا بمحافظات الصعيد في يوليو 2025، بحسب نشرات هيئة السكك الحديدية، يعكس عمق الأزمة رغم تعهدات التطوير المستمرة.
وبينما تُصر حكومة الانقلاب على استمرار تشغيل الـ14 قطار VIP المتجهة للجنوب حسب بياناتها الرسمية، يؤكد الواقع والانطباع الشعبي أن هذه الأرقام ليست سوى تبرير لممارسات تخلّت عن العدالة في توزيع الموارد.
أصبح وزير النقل الفريق كامل الوزير هدفًا لانتقادات حادة من نواب محافظات الصعيد، حيث وصف النائب مصطفى سالم، وكيل لجنة الخطة والموازنة، في جلسة برلمانية بتاريخ 22 مايو 2025، ما يحدث بأنه "تمييز فج" ضد أهالي الصعيد، مشيرًا إلى أن "أموال الدولة تُوجَّه لخدمة العاصمة والمستثمرين فقط، بينما الصعيد يعيش في عهد النقل الحجري".
كما وصف الخبير الاقتصادي هاني توفيق، في تصريحات إعلامية لـ"الشرق الاقتصادية" في يونيو الماضي، أن ما تشهده قطارات الصعيد "يمثل فشلًا إداريًا وسياسيًا متعمدًا"، متهماً الوزارة بـ"نقل الفوائض المالية لمشروعات غير إنتاجية بدلًا من تحسين المرافق الأساسية للفقراء".
في يوليو 2025، شهدت مصر موجة غضب واسعة بعد إعلان هيئة السكك الحديدية عن سحب عربات قطارات الـVIP من على خط أسوان-القاهرة، ونقلها لخدمة الوجه البحري، مع استبدالها بعربات روسية من الدرجة الثانية.
هذا القرار جاء بمثابة "القشة القاصمة" للثقة بين حكومة الانقلاب وأهالي الصعيد، إذ أشارت بيانات رسمية إلى أن التغيير تم دون مراعاة لاحتياجات الفئات الأكثر ضعفًا والأشد احتياجًا للراحة في ظل ارتفاع أسعار التذاكر وتراجع جودة الخدمة.
بحسب بيان الهيئة، تم توريد 1,350 عربة ركاب جديدة منذ بداية تطوير المنظومة، منها 500 عربة درجة ثالثة تهوية، و500 ثالثة مكيفة، و53 ثانية مكيفة، مع التأكيد على تشغيل 94 قطارًا متجها للجنوب بأسعار متدرجة، لكن الواقع الذي رصده حزب العدل أكبر المنتقدين للسياسات الحكومية الحالية أظهر أن معظم هذه القطارات لا تخدم سوى مسافات قصيرة، بينما الجزء المحوري بين الأقصر وأسوان تخدمه فقط قطارات VIP بعد تقليل عددها بشكل لافت.
هذا أدى إلى حالة استياء ضخمة انعكست في تصريحات إبراهيم العجمي، عضو الهيئة العليا لحزب العدل، الذي أكد أن تذاكر الدرجة الثانية الروسية غير مريحة وسعرها بلغ 550 جنيهًا، مقابل 245 جنيهًا فقط لقطارات الـVIP سابقًا، في حين قفزت أسعار قطارات النوم إلى 1,100جنيه، دون أي تحسن ملموس في الخدمة.
هنا، أصبح الصعيد محاصرًا بين خيارات لا تحقق أبسط مطالب العدالة الاجتماعية: السفر المرهق في قطارات بلا تكييف تحت حرارة تتخطى الأربعين درجة، أو دفع أسعار مبالغ فيها لراحة لا يحصل عليها فعليًا، فيما لا تتجاوز قطارات "النوم" دورها سوى شريحة ضيقة، مع انتقال ملكيتها إلى شركات خاصة يصعب التواصل معها لحل المشكلات
تهميش الصعيد.. سياسة ممنهجة منذ 2013
يشير مراقبون إلى أن تهميش الصعيد ليس وليد اللحظة، بل سياسة ممنهجة منذ تولي النظام الحالي الحكم بعد انقلاب يوليو 2013، فرغم وعود التنمية، إلا أن معدلات الإنفاق الحكومي على مشروعات البنية التحتية بالصعيد لم تتجاوز 18% من إجمالي موازنة التنمية القومية لعام 2024/2025، وفق أرقام وزارة التخطيط.
وفي تقرير أصدرته مؤسسة "مبادرة الإصلاح العربي" في أبريل 2025، جاء أن "الصعيد يمثل نحو 25% من سكان مصر، لكنه لا يحصل إلا على 11% فقط من الاستثمارات العامة"، كما أشار التقرير إلى أن معدلات البطالة في محافظات مثل سوهاج وقنا تتجاوز 22%، وهي ضعف المتوسط القومي.
لماذا يُقصى الصعيد من مشروعات النقل الحديثة؟
يتساءل كثيرون عن السبب وراء استبعاد محافظات الصعيد من خطط تطوير النقل الذكي والسكك الحديدية السريعة التي تم الإعلان عنها، فمشروع القطار الكهربائي السريع، الذي أعلن قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي إطلاقه في عام 2021، يربط بين العين السخنة ومرسى مطروح، مرورًا بالقاهرة والعاصمة الإدارية والساحل الشمالي، متجاهلًا تمامًا مدن الصعيد الكبرى مثل أسيوط وسوهاج والأقصر.
وبرر الفريق كامل الوزير في تصريحات له بتاريخ 5 يناير 2025 أن "تكلفة توصيل القطار الكهربائي للصعيد مرتفعة ولا تحقق عائدًا اقتصاديًا حاليًا"، وهو التصريح الذي قوبل باستياء واسع، حيث رد النائب محمد الغول (نائب نجع حمادي) قائلًا: "إذا كانت الكثافة السكانية في الصعيد لا تبرر استثمار الدولة، فماذا نقول عن مشروعات تصب فقط في خدمة السياح أو نخبة العاصمة؟".
تداول نشطاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي خلال يونيو ويوليو 2025 مقاطع فيديو تُظهر أعطالًا متكررة لقطارات متجهة من القاهرة إلى أسوان، بعضها توقف لساعات في مناطق نائية دون وجود مياه أو خدمات، وسط موجة حر قاربت 45 درجة مئوية.
وأطلق رواد مواقع التواصل وسومًا مثل: #الصعيد_مش_عبيد و #قطارات_الصعيد_فين للمطالبة بمحاسبة المسؤولين وتحقيق العدالة في توزيع الخدمات.
ومع ذلك، لم تصدر حكومة الانقلاب أي بيانات رسمية لتهدئة الرأي العام أو توضيح خطتها لتطوير المرافق في الصعيد، بينما اكتفى المتحدث باسم وزارة النقل، محمد عز، في مداخلة تلفزيونية، بالقول: "نحن نعمل على خطة شاملة، لكن الأولويات تحددها الجدوى الاقتصادية".
الصعيد في قلب الخريطة أم هامشها؟
هل يعكس هذا الإهمال توجها سياسيًا لحرمان الصعيد من التنمية؟ تقول الدكتورة ليلى سويف، أستاذة الاقتصاد السياسي، إن "النظام الحالي لا يرى في الصعيد بيئة واعدة للاستثمار أو الإنتاج، بل منطقة مهمشة تُستخدم فقط لتصريف الفائض السكاني أو تخزين الغضب الاجتماعي بعيدًا عن العاصمة".
وفي هذا السياق، أشار تقرير صادر عن البنك الدولي في نوفمبر 2024 إلى أن نصيب الفرد في الصعيد من الإنفاق العام يقل بنسبة 40% عن نظيره في القاهرة الكبرى، محذرًا من أن "التمييز الإقليمي في توزيع الخدمات يهدد استقرار الدولة على المدى الطويل".