نظرة عامة..
تشير البيانات الحديثة إلى أن فوائد الديون الحكومية في مصر استهلكت ما بين 60 إلى 65% من إجمالي الإيرادات العامة خلال العام المالي المنتهي في مايو 2025، وتعد هذه النسبة من الأعلى عالميًا، مما يعكس أزمة حقيقية في قدرة البلاد على تحمل أعباء الدين العام، بالرغم من محاولات حكومة الانقلاب تنفيذ برامج إصلاحية على المستويين المالي والنقدي.
وقد أفادت تقديرات المؤسسات المالية الدولية بأن مدفوعات الفوائد وحدها ستستهلك نحو ثلثي إيرادات الدولة بنهاية السنة المالية 2025، وهو ما يضع مصر ضمن قائمة الدول الأعلى في هذا المؤشر عالميًا.
أبعاد الأزمة..
ارتفعت نفقات سداد الديون في مشروع موازنة 2025/2026 إلى ما يزيد عن 2.08 تريليون جنيه، وهو ما يمثل نحو 65% من إجمالي الاستخدامات الحكومية، كما زادت مدفوعات الفوائد وحدها بنسبة تفوق 25% لتتجاوز 2.3 تريليون جنيه.
تكشف هذه الأرقام عن اختلال هيكلي واضح، حيث تستهلك خدمة الدين معظم الموارد العامة، فيما تتراجع المخصصات الموجهة لتحسين الخدمات العامة مثل التعليم والصحة.
وتشير التقارير إلى أن ما يقرب من 58% من القروض الجديدة تستخدم فقط لسداد قروض سابقة، وأن الفوائد تعادل حوالي 87% من إجمالي الحصيلة الضريبية المتوقعة في العام المقبل.
رؤية وكالات التصنيف..
رأت وكالات التصنيف الائتماني أن الوضع المالي في مصر يتسم بضعف كبير في القدرة على تحمل أعباء الدين، وعلى الرغم من خطة حكومة الانقلاب لتحقيق فائض أولي يبلغ 3.5% من الناتج المحلي، فإن التوقعات تشير إلى أن القدرة على خدمة الدين ستظل ضعيفة ما لم تشهد الإيرادات الحكومية زيادات كبيرة ودائمة أو في حال حدوث انخفاض ملحوظ في أسعار الفائدة عالميًا.
ويتوقع أن تتراجع نسبة الفوائد إلى الإيرادات إلى أقل من 50% بحلول عام 2027، إذا استمرت الحكومة في تنفيذ إصلاحاتها، إلا أنها ستظل من بين الأعلى في الأسواق الناشئة.
أسباب تفاقم الأزمة: تضخم وقروض جديدة
تتعدد العوامل التي أسهمت في تعميق الأزمة المالية، أبرزها:
- ارتفاع أسعار الفائدة محليًا ودوليًا، مما زاد كلفة الاقتراض الحكومي.
- تراجع إيرادات قناة السويس نتيجة اضطرابات البحر الأحمر، ما أثر سلبًا على تدفق النقد الأجنبي.
- التوسع في الاقتراض، حيث تعتمد موازنة الدولة بنسبة تفوق النصف على أدوات الدين مثل القروض وأذون الخزانة.
- معدلات تضخم مرتفعة تجاوزت 23% في مطلع عام 2025، مما ضغط بشدة على النفقات المعيشية وأضعف القدرة الشرائية للمواطنين.
خطوات حكومية وإصلاحات.. ولكن
اتخذت حكومة الانقلاب عدة تدابير لمحاولة احتواء الأزمة:
- تحرير سعر الصرف بشكل كامل في مارس 2024 لجذب الاستثمارات والعملات الأجنبية.
- رفع أسعار الفائدة بواقع 600 نقطة أساس خلال العام المالي الماضي.
- إصلاحات ضريبية تهدف إلى رفع الحصيلة بنسبة 36%، وتوسيع القاعدة الضريبية.
- استهداف تحقيق فائض أولي نسبته 3.5% في العام المالي 2025، مع تعزيز دور القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي.
لكن هذه الخطوات وُصفت بأنها غير كافية حتى الآن لجعل خدمة الدين أكثر استدامة، كما لم تؤدِ إلى تخفيف الضغط عن المخصصات الاجتماعية أو تعزيز معدلات النمو الحقيقي.
انتقادات وأصوات تحذيرية في الداخل
الأزمة لم تمر مرور الكرام في أروقة برلمان الانقلاب، إذ وجّه نواب مثل ضياء الدين داود انتقادات لاذعة لحكومة الانقلاب عقب إعلان الحساب الختامي لموازنة 2023/2024، حيث أظهرت البيانات ارتفاع الدين العام إلى 11.45 تريليون جنيه، مقارنة بـ8.6 تريليون فقط في منتصف 2023، بزيادة تبلغ 33% خلال عام واحد.
وأشار النائب محمد بدراوي إلى أن النمو الكبير في مخصصات الفوائد سببه التوسع المستمر في الاقتراض، مؤكدًا أن كبح نمو الفوائد لن يتم إلا بتراجع واضح في أسعار الفائدة.
وفي محاولة للتطمين، صرّح وزير المالية بحكومة الانقلاب أحمد كوجك بأن الحكومة تستهدف تقليص الدين الخارجي تدريجيًا بمعدل يتراوح بين مليار وملياري دولار سنويًا، مع التركيز على توسيع مصادر الإيرادات وتحفيز الاستثمار.
تقييم الخبراء والمحللين.. مستقبل غامض وإصلاحات مطلوبة
يجمع معظم المحللين الاقتصاديين على أن استمرار هذا المستوى المرتفع من خدمة الدين يُضعف قدرة الدولة على الإنفاق التنموي، فتوجيه أكثر من نصف الموازنة نحو سداد الفوائد والأقساط يهدد بعرقلة مشاريع البنية التحتية والتعليم والرعاية الصحية.
ويرى الخبراء أن المخرج الوحيد من هذا النفق يتمثل في:
- تحسين كفاءة النظام الضريبي وتوسيع القاعدة دون إثقال كاهل المواطنين.
- خفض أسعار الفائدة بالتوازي مع تراجع التضخم.
- تعزيز مصادر الدخل المستدامة مثل السياحة، الصناعة، وقناة السويس.
فالتحول نحو مسار مالي مستقر لن يكون ممكنًا إلا بإصلاحات شاملة تمس بنية الإيرادات والنفقات، والحد من الاعتماد على الديون قصيرة الأجل، وتوجيه الموارد إلى مجالات إنتاجية.