أعلن مصطفى مدبولي، رئيس حكومة الانقلاب العسكري، خلال زيارته الأخيرة للإسكندرية، عن بدء العمل على إنشاء 60 ألف وحدة سكنية بديلة لسكان العمارات الآيلة للسقوط، وذلك بعد سنوات من التجاهل والتقاعس عن معالجة ملف خطير يمس حياة عشرات الآلاف من المواطنين.

يأتي هذا الإعلان بعد حوادث متكررة لانهيار عقارات، كان أبرزها انهيار عقار العطارين وسط المدينة في يوليو 2024، والذي أسفر عن سقوط ضحايا بين قتلى ومصابين، ما وضع الحكومة أمام موجة من الانتقادات.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا.. لماذا لم تبدأ الدولة هذا المشروع منذ سنوات رغم تحذيرات الخبراء؟ وهل استدعى الأمر سقوط المزيد من الأرواح حتى تبدأ "الصحوة المتأخرة"؟

 

أكثر من 20 ألف عقار مهدد بالإسكندرية

تشير بيانات رسمية صادرة عن محافظة الإسكندرية في عام 2023 إلى وجود أكثر من 22 ألف عقار مهدد بالانهيار، من بينها قرابة 6,000 عقار مصنف "خطير جدًا" ويحتاج إلى الإخلاء الفوري أو الهدم.

ومن المثير للدهشة أن هذه الأرقام ظلت تتكرر في تقارير الحكومة نفسها منذ أكثر من 7 سنوات، دون أن يتحرك الملف بجدية على المستوى التنفيذي.

ففي تقرير للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2022، تبين أن محافظة الإسكندرية تحتل المرتبة الأولى في مصر من حيث عدد المباني القديمة والآيلة للسقوط، بنسبة تتجاوز 17% من إجمالي مباني المحافظة، ومع ذلك استمر التباطؤ الرسمي في مواجهة الأزمة، بحجة "ضعف الموارد" و"صعوبة الإخلاء".

 

مشاريع استعراضية

في الوقت الذي تجاهلت فيه حكومة السيسي الانقلابي آلاف الأسر المهددة بالموت تحت أنقاض منازلها، ضخت المليارات في مشروعات استعراضية مثل العاصمة الإدارية الجديدة، والتي تجاوزت تكلفتها الإجمالية 58 مليار دولار حتى عام 2024.

وتُركت أحياء مثل العطارين والمنشية وكوم الدكة وغيط العنب لمصيرها، رغم كونها مناطق سكنية مكتظة وشديدة الخطورة.

يرى مراقبون أن قرار مدبولي الأخير لا يأتي بدافع الحرص على أرواح المواطنين، بل كرد فعل اضطراري بعد تصاعد الغضب الشعبي، خصوصًا على مواقع التواصل الاجتماعي التي ضجّت بصور وفيديوهات انهيار العقارات، وصرخات الأهالي المطالبين بتدخل عاجل.

 

غياب التخطيط

لم يُقدم مدبولي أو أي من وزرائه خلال الإعلان عن المشروع الجديد، خطة واضحة بشأن التمويل أو الجدول الزمني أو حتى المعايير التي ستُعتمد في اختيار المستحقين. كل ما قاله رئيس الحكومة هو أن المشروع "سيبدأ فورًا" وأنه تم "تحديد الأراضي اللازمة"، دون أن يوضح حجم الميزانية المخصصة أو الجهات المنفذة.

الخبير العمراني د. حمدي عرفة قال في تصريح صحفي إن إنشاء 60 ألف وحدة سكنية يستلزم ميزانية لا تقل عن 15 مليار جنيه في ظل ارتفاع أسعار مواد البناء والأراضي. وأضاف أن "مثل هذه المشاريع لا تُدار بإعلانات مرتجلة بل بخطط واضحة، وهذا ما نفتقده في ظل نظام يدير الدولة بعقلية الطوارئ".

منذ بداية عام 2024 فقط، انهار في الإسكندرية 14 عقارًا وفقًا لرصد المجتمع المدني، من بينها عقارات مأهولة بالسكان، ما أدى إلى مقتل 32 شخصًا وإصابة العشرات، بينما بقي المئات بلا مأوى بعد إخلائهم قسرًا دون توفير بدائل.

ولعل أبرز تلك الحوادث انهيار عقار شارع "على بك الكبير" في مايو 2024، الذي راح ضحيته 9 أفراد من أسرة واحدة، ورغم فداحة المأساة، لم يتم التحقيق مع أي مسؤول محلي حتى الآن، بل اكتفى المحافظ بتوجيه اللوم للمواطنين الذين "رفضوا الإخلاء"، متجاهلاً تقاعس الدولة عن توفير سكن بديل.

 

هل هي بداية الحل أم تهدئة مؤقتة؟

إعلان مدبولي، رغم تأخره، قد يكون خطوة في الاتجاه الصحيح نظريًا، لكن من غير المتوقع أن يُحدث فرقًا ملموسًا دون وجود رقابة مجتمعية وضمانات شفافة لتنفيذ المشروع. فالمواطن المصري فقد ثقته في وعود النظام بعد سلسلة طويلة من الفشل والإهمال والفساد.

وفي ظل أزمات اقتصادية طاحنة، وانهيار العملة المحلية، وتزايد الديون الخارجية التي تجاوزت 165 مليار دولار بنهاية 2024، يظل تنفيذ مشروع إسكان واسع النطاق للإسكندرية محل شك كبير، خاصة إذا استمرت عقلية “إدارة الأزمات بعد وقوع الكارثة” التي تميزت بها حكومة السيسي منذ انقلاب يوليو 2013.


ما يحدث في الإسكندرية ليس سوى صورة مصغرة لمشهد أكبر من الإهمال المزمن الذي تعاني منه مصر في عهد السيسي، فالدولة التي تفتقر إلى الأولويات وتغرق في الاستعراض والديون، لن تُنقذها تصريحات مرتجلة، بل تحتاج إلى تغيير جذري في طريقة الحكم، قبل أن يسقط الباقي من العمارات فوق رؤوس أبنائها.