د. عطية عدلان

أكاديمي مصري- أستاذ الفقه الإسلامي

 

بين المشاريع الكبرى المتدافعة تقوم الحرب ويقوم السلم، وتعرف الطائرات والصواريخ متى تنطلق وتحلق؟ ومتى تزوي في مرابضها وتأرز إلى أنفاقها؟ بين المشاريع التي تتزاحم بأكتافها وتتهارش بأطراف أجنحتها فوق كل فريسة ممزقة مستسلمة يتمدد جسد الأمة وتتمطى جثتها التي لا يُدْرَى أهي لا تزال حية أم أنها قد فارقت الحياة منذ مدة، بين المشاريع الضالة تبقى أمّة الهدى بلا رؤية ولا مشروع، أليس هذا عجيبا وغريبا ومريبا؟ ألا يشير هذا إلى أنه يراد لنا أن نبقى هكذا بلا رؤية ولا مشروع؟ أم أن أمتنا تصورت -وهي مسترخية في الحِمَى الوثير للنظام العالمي الكبير- إن دعوة الإسلام سرت في الأنام بلا خطة ولا مسار؟ ولا استراتيجية طرحت في وقت مبكر بوادٍ جدب بين أخشبَيْن؟ ذلكم هو السؤال الكبير الذي يأبى إلا أن ينفرد بالتحرك فوق خشبة المسرح، بعد أن ذهب اللاعبون دون أن يسدلوا الستار، فهل نجد لهذا السؤال جوابا مع حلول موعد احتفالنا بالهجرة النبوية؟

 

قبل الهجرة ماذا كان يجري؟

لم يكن التعرض الدائم للاضطهاد والتنكيل هو الحامل على الهجرة أولًا إلى الحبشة ولا على الهجرة ثانيًا إلى يثرب، آية ذلك أن الذين هاجروا إلى الحبشة كان أغلبهم من أشراف قريش الرافلين في عز ومنعة من عشائرهم، كأمّ حبيبة بنت أبي سفيان، وعثمان بن عفان، وجعفر بن أبي طالب، بل إن الضعفاء الذين كانوا يسامون سوء العذاب في شعاب مكة لم يكونوا مهزومين نفسيا، ولقد كان كل واحد منهم قادرا على أن يحمل سيفه على عاتقه فيقاتل كل من تسول له نفسه انتهاك حرمته ووطء أنَفَتِهِ حتى يحكم الله بينه وبين عدوه، لكنهم التزموا بالأمر الإلهي: {كفّوا أيديكم}، وذلك لهدف واضح، وهو أن تولد الحقيقة أول مرة في مناخ لا يشوشه دخان الاحتراب.

ولم يفكر رسول الله في الهجرة إلى بلد تكون منصة للانطلاق إلا بعد أن حقق عَبْر مرحلتين ثلاثة أهداف رئيسة، الأول: بناء النواة الصلبة التي حملت بعد ذلك بنيان الإسلام، الثاني: إتمام البلاغ والبيان بالقضايا الكلية الكبرى لدين الإسلام، الثالث: تقويض النظرية الوثنية من أصولها، لتخر خاوية على عروشها، فلم يبق منها سوى تلك الشخوص الحجرية التي لم يعد لها أدنى احترام حتى في أنفس الذين يقاتلون باسمها، التي ظلت تنتظر ريثما يعود إليها المسلمون ليحطموها صائحين: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا}، وبعد أن تحققت هذه الأهداف كان التفكير في الانتقال والتحول الاستراتيجي، ومن لحظتها كان ما يُطرح على الوفود في مواسم الحج مختلفا عما مضى، إذ لم يكتف النبي بدعوة تلك الوفود للإسلام، وإنما أدغم بها -إدغاما بغنة ومدة وشدة- طلبا صريحا: من يؤويني حتى أبلغ دعوة ربي؟ ولم يكن زعماء تلك الوفود غافلين عما يراد، بل لم تكن قريش نفسها غافلة عن ذلك ولا عن أهداف الهجرة من قبل إلى الحبشة، وإلا لتركتهم يهاجرون بلا إزعاج.

 

وأثناء الهجرة ما الذي جرى؟

ألم يكن رسول الله على يقين بنصر الله؟ بلى، لقد كان على يقين بأن الله سيتولّاه ويحرسه بعنايته حتى يتم أمر ربه، وإذن فلماذا كل هذا؟ لماذا يضع الخطة بهذا الإحكام؟ حتى أنه ليتعمد الميل نحو الجنوب بعيدا عن طريق القوافل الصاعد شمالا صوب الشام؟ وينزل غار ثور ويمكث فيه ثلاثة أيام، وإلى حد أنه كان قد اتفق مع رجل أمين رغم شركه (عبد الله بن أريقط) ليأتي بالنوق الثلاث بعد أيام هي التي مكثها في الغار، وأنه كان قد كلف أسماء بنت أبي بكر وأخاها عبد الله بأن يأتياه كل يوم خفية، هي بالزاد وهو بالأخبار، وعامر بن فهيرة يعفّي على آثارهما بالغنم التي يرعاها، وعلي بن طالب ينام في فراشه للتمويه، وليرد من بعده الأمانات التي إن ردها قبل خروجه سيكون ذلك علامة على اعتزامه الخروج، ثم بعد ذلك كله كادت الخطة كلها تنهار في اللحظة التي التفّ فيها الكفار حول الغار، إنما وقع ذلك كله على هذا النحو لتتعلم الأمة أن لا سبيل إلى بلوغ الغايات بالارتجال، وأنه لا غنى لها عن التخطيط الدقيق، ولتتعلم إلى جانب ذلك أن قيامها بهذا الواجب -واجب التفكير والتدبير والتخطيط- لا يغنيها عن التوكل على الله، فهو وحده ناصر المؤمنين ولو أحاطت بهم قوى الشر إحاطة الأسوار العالية بالأسارى المقيدين: {إِلَاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ‌إِذْ ‌أَخْرَجَهُ ‌الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، فما أعظمه من درس!

 

وماذا بعد الهجرة؟

وما دام أهل الحق قد وضعوا أقدامهم على الطريق الصحيح، ومضوا فيه لا يهملون الأسباب التي لا يصح إهمالها، ولا يهدرون القيم والأحكام التي لا يصح إهدارها، وأخلصوا لله نياتهم وصححوا على منهاج الوحي أعمالهم، فلن يتركهم الله للقوى المتصارعة والمشاريع المتدافعة تطحنهم تحت رحاها، فها هو رب العزة يشغل القوتين العظميين آنذاك فارس والروم بحربين كبيرتين في بضع سنين، استنزفت طاقاتهما، وأنهكت قواهما، وقد بشرهم الله قبيل الهجرة: {وَيَوْمَئِذٍ ‌يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ}، وفرح المؤمنون بنصر الله الذي وقع لهم في بدر، في اليوم ذاته الذي انتهت في حرب الكبار بنصر الروم، وانطلقت مسيرة الصدام مع القوة المجاورة حتى استقر بالفتح، بعدها بدأ الرسول خطة الانطلاقة الكبرى التي أكملها من بعده الخلفاء الراشدون، بدأها بتبوك وبالرسل إلى الرؤساء والملوك.

 

ما قيمة المشروع لأمتنا؟

تكمن قيمة المشروع لأمتنا في حقيقة لا يراها الكثيرون، وهي أن أمتنا لا ينقصها سوى المشروع، فإنها أغنى أمة بالشباب الذي إن نال حريته وشيئا من كرامته سيكون قادرا على صنع المعجزات، وإنها إلى جانب ذلك لغنيّة بمواردها من الثروات والطاقة، فلو قام بين دولها تحالفات اقتصادية وسياسية وعسكرية، وبين شعوبها أخوة إيمانية عامة، لبلغت حد الكفاية والكفاءة، فهلّا توجهنا إلى هذه الغاية؟