غيّب الموت، اليوم، المستشار أحمد سليمان، وزير العدل الأسبق، عن عمر ناهز 75 عامًا، بعد مسيرة قضائية امتدت لعقود، تميّز خلالها بدفاعه المستمر عن استقلال السلطة القضائية ورفضه تسييس العدالة. ويُعد سليمان أحد أبرز مؤسسي تيار الاستقلال في القضاء المصري، وصوتًا قضائيًا وطنيًا لم يتورط في صفقات السياسة، وظلّ وفيًا لقيمه حتى رحيله.
تولى سليمان منصب وزير العدل في حكومة الدكتور هشام قنديل عام 2013، ليكون أول قاضٍ من تيار الاستقلال يشغل هذا المنصب. إلا أن ولايته لم تدم طويلاً، إذ استقال عقب أحداث 3 يوليو من العام نفسه، معلنًا رفضه للانقلاب على الشرعية، ومعترضًا على ما وصفه بـ"تقويض استقلال القضاء"، ليختار بعدها الصمت القسري والإقامة الجبرية غير المعلنة، بعيدًا عن الأضواء.
وقد وُصف الراحل من قبل زملائه بأنه "قاضٍ نزيه آثر المبدأ على المنصب، وظل حتى لحظاته الأخيرة وفيًّا لقَسم العدالة، رافضًا الانحراف بالسلطة القضائية عن مسارها الطبيعي".
من هو المستشار أحمد سليمان؟
- وُلد المستشار أحمد سليمان عام 1950.
- تخرج في كلية الحقوق بجامعة القاهرة عام 1970.
- حصل على درجة الماجستير في الشريعة والقانون عام 1977.
- برز اسمه ضمن تيار استقلال القضاء في عهد الرئيس المخلوع الراحل حسني مبارك، وكان من أبرز رموزه في نادي القضاة.
- تولى رئاسة نادي قضاة “المنيا” إحدى محافظات صعيد مصر لفترتين.
- عمل مستشارا بمحكمتي استئناف القاهرة وأسيوط.
- أُعير للعمل قاضيا بالمحكمة الاتحادية العليا في دولة الإمارات.
وزير العدل في حكومة الرئيس محمد مرسي
في مايو 2013، عُين المستشار أحمد سليمان وزيرا للعدل في حكومة الرئيس الراحل محمد مرسي، خلفا للمستشار أحمد مكي.
لم تدم فترة توليه الوزارة طويلاً، إذ قدم استقالته في 7 يوليو 2013 عقب أحداث الثالث من يوليو 2013، معترضا على المسار السياسي الجديد.
وقد عانى لاحقا من التضييق الأمني، حيث اعتُقل عام 2018، ووُضع تحت الإقامة الجبرية، كما تعرض أبناؤه للفصل من وظائفهم.
صوت العدالة
لم يتورط الرجل في صراعات شخصية ولم يسعَ للأضواء والشهرة، لكنه ظل حاضراً في ذاكرة القضاة صوتاً نقياً نادراً، لم يساوم يوماً على مبدأ ولم يركن إلى السلطة أو يطلب رضاها. وبعد عزله من منصبه، انسحب في صمت نبيل لكنه لم ينكسر. وعاش السنوات الأخيرة بعيداً عن الأضواء، لكنه ظل حاضراً في ضمائر من آمنوا برسالته، مدافعاً عن مبادئه حتى آخر أيامه، متحملاً كلفة مواقفه بكل شموخ. المستشار أحمد سليمان لم يكن مجرد مسؤول رفيع، بل كان صوتاً للعدالة حين خفتت الأصوات، وظل في ذاكرة من عرفوه مثالاً للقاضي الإنسان، الذي جمع بين الحزم والرحمة، وبين المهنية والضمير.
عرفه زملاؤه وتلاميذه قاضياً رفيع الخلق، نزيه اليد، عفيف اللسان، لا يساوم في الحق، ولا يتراجع عن قناعاته مهما ضاقت السبل. تقلد منصب وزير العدل في فترة حرجة من تاريخ البلاد، وترك المنصب رافضاً ما اعتبره مساساً بكرامة القضاة أو تدخلاً في شؤون القضاء. وجاءت وفاة المستشار الراحل مفاجئة، بحسب ما أعلن نجله الذي كتب عبر صفحته الشخصية على موقع فيسبوك نعياً إنسانياً مؤثراً قال فيه: "توفي إلى رحمة الله والدي العزيز، الحر الأبي، المستشار أحمد سليمان، وزير العدل الأسبق، عاش مدافعاً عن الحق وأهله، محباً للخير. وتعرض لصنوف من الظلم من زملاء وتلاميذ، إلا أن ذلك لم يثنه عن الوقوف شامخاً، مرفوع الرأس. لم تنكسر هامته ولم يركع إلا لله"، وأضاف "توقف القلب فجأة بعد عودته من صلاة العشاء. وآخر كلماته قبل أن يُغشى عليه: (أنا كنت بتوضى لصلاة الفجر)، رغم أن الساعة كانت الحادية عشرة والنصف مساءً، وكأنه كان في عالم الآخرة، حيث الراحة بلا شقاء، حيث الإحسان بعد الصبر على البلاء".
مواقف بارزة
ومنذ كان المستشار أحمد سليمان وكيلاً للنائب العام آمن باستقلال القضاء، حيث مثل أمامه في نهاية سبعينيات القرن الماضي طالبان بكلية هندسة المنيا مكبلين ومعصوبي العينين، ومتهمان بإثارة الشغب والمظاهرات في جامعة المنيا احتجاجاً على اتفاقية السلام مع الاحتلال الإسرائيلي، وكان مرفقاً بقرار العرض علي النيابة مذكرتي تحريات صادرة عن الأجهزة الأمنية فما كان من سليمان إلا أن أمر بفك قيودهما وسمح لهما بتناول الطعام، وبعد التحقيق معهما أمر بإخلاء سبيلهما ضارباً عرض الحائط بمذكرتي التحريات، حيث كان يؤمن أن التحريات لا تُعبر إلا عن اعتقادات مجريها ما لم تستند إلى أدلة مادية وهي القناعة التي أمدها لاحقاً حكم لمحكمة النقض المصرية.
ومن المحطات البارزة في حياة سليمان أثناء توليه وزارة العدل معارضته أي مساس باستقلال القضاء، مهما كان هوية من يرغب في ذلك. ولن ينسى له التاريخ رفضه التعديل في قانون السلطة القضائية والنزول بسن تقاعد القضاة من 70 إلى 60 عاماً انطلاقاً من اعتقاده بأن هذا التعديل يمس استقلال القضاء. كما رفض الوزير الراحل اتهامات وجهها الرئيس الراحل محمد مرسي إلى أحد القضاة، خلال خطابه الشهير في الصالة المغطاه باستاد القاهرة، بالتلاعب بنتيجة الانتخابات. معتبراً ذلك إهانة للقضاة والقضاء، بل إنه تدخل وأقنع مؤسسة الرئاسة بإصدار بيان يؤكد احترام الرئيس للقضاة وإيمانه باستقلال القضاء ودوره في ترسيخ العدالة.
تبنى سليمان موقفاً قوياً من إحالة أكثر من 100من "قضاة البيان" و"قضاة من أجل مصر" لمجلس الصلاحية حيث تولي بنفسه الذود عن هؤلاء القضاة، معتبراً قرار الإحالة مخالفاً للقانون والدستور ولاستقلال القضاء، خصوصاً أن هؤلاء لم يطالبوا بأكثر من احترام الدستور وإرادة الشعب والحث علي المصالحة الوطنية. بل إنه كان يقف وراء خوض معركة قانونية شاملة ضد قرار الإحالة ومواصلة كل مراحل التقاضي ضد قرار عزل القضاء، وصولاً إلى القضية الأخيرة الخاصة بمخاصمة مجلس التأديب الأعلى، انطلاقاً من قناعته بأن هذه قضية تاريخية يجب خوضها حتى النهاية.
حملات تشويه طاولت أحمد سليمان
بعد عزله من منصبه عقب أحداث يوليو 2013، واجه المستشار الراحل حملات تشويه وبلاغات أمنية، وخضع للتحقيقات أكثر من مرة، من دون أن تثبت عليه أي تهمة. ورغم ذلك، لم يغادر البلاد وظل صامداً في بيته وبين أسرته، يعيش حياة بسيطة بعيداً عن الأضواء، متمسكاً بسيرته القضائية النظيفة، وسلوك القاضي الذي لا تنال منه العواصف.
وكان سليمان خلال سنواته الأخيرة يعاني وضعاً أشبه بالإقامة الجبرية، حيث كان ملتزماً بزيارة مكتب مأمور قسم المنيا الجديد بعد الإفراج عنه، وبعد أكثر من عام أصبحت زيارة أسبوعية يقوم بها أمينا شرطة لمنزله للاطمئنان على عدم مغادرته محافظة المنيا. لكن ظهور سليمان على أحد الفضائيات ناعياً المستشار طارق البشري عند وفاته، أثار استياء الأجهزة الأمنية وعادت المضايقات مجدداً، حيث تم إلزامه لفترة بالقيام بمتابعة بمكتب مأمور قسم المنيا الجديد لمدة ثلاثة أشهر قبل الاكتفاء لاحقاً بمتابعة مرة أسبوعياً من قبل أمناء الشرطة في منزله.
في السنوات الأخيرة، التزم المستشار سليمان الصمت، ولم يظهر في وسائل الإعلام، لكنه بقي حاضراً في ذاكرة القضاة والمشتغلين بالشأن العام بوصفه أحد النماذج النادرة لقاضٍ جمع بين الحزم المهني والضمير الأخلاقي، وبين الشجاعة والصبر. وأثار خبر وفاته موجة من التعاطف والحزن على منصات التواصل الاجتماعي، خاصة بين أعضاء السلطة القضائية، ونشطاء المجال الحقوقي ممن استعادوا مواقف الرجل ووقفاته في ملفات استقلال القضاء.
نعي واسع
وقد نعى عدد من الشخصيات القضائية والحقوقية، المستشار أحمد سليمان، مشيدين بثباته في الدفاع عن استقلال القضاء ونزاهته وعلمه وحسن خلقه.
ونعاه نجله المستشار محمد سليمان، قائلاً: "لا حول ولا قوة إلا بالله ولا نقول إلا ما يرضي ربنا.. إنا لله وإنا إليه راجعون.. توفى إلى رحمة الله والدي العزيز الحر الأبي المستشار/ أحمد سليمان - وزير العدل الأسبق - عاش مدافعا عن الحق وأهله محبا للخير.. تعرض لصنوف من الظلم من زملاء وتلاميذ إلا أن ذلك لم يثنه عن الوقوف شامخا مرفوع الرأس.. لم تنكسر هامته ولم يركع إلا لله.. توقف القلب فجأة بعد عودته من صلاة العشاء.. آخر كلماته قبل أن يغشى عليه (أنا كنت بتوضى لصلاة الفجر) رغم أن الساعة كانت الحادية عشرة والنصف مساء وكأنه كان في عالم الآخرة حيث الراحة بلا شقاء حيث الاحسان بعد الصبر على البلاء.. توقف القلب فجأة وفشلت محاولات الانقاذ.. بعد ارتقائه كانت تفوح منه رائحة عطرة رغم أنه لا يضع العطور لمعاناته من حساسية الصدر.. إن العين لتبكي وإن القلب ليحزن وإنا لفراقك يا أبي لمحزونون ولا نقول إلا ما يرضي الله.. إنا لله وإنا إليه راجعون.. اللهم ثبته عند السؤال وإجعل الليلة خير لياليه.. اللهم جازه خيرا عن فضله وإحسانه عن طيبة قلبه ونقاء سريرته وكأنه من عصور الصحابة .. اللهم رضاك عنه والجنة مأواه.. نسألكم الدعاء".
وقال الأستاذ بجامعة الأزهر إسماعيل على: " وفاة المستشار #أحمد_سليمان .. نحسبه من الصالحين الصادقين الذين لم يخشوا في الحق لومةَ لائم، وصبر على أذى نظام الخائن #السيسي له ..اللهم ارحمه برحمتك الواسعة، وأرْضِهِ وارْضَ عنه يا أكرم الأكرمين.".