في زيارة رسمية حملت الكثير من الرسائل غير المعلنة، استقبلت القاهرة يوم الأحد 23 يونيو 2025، صدام حفتر، نجل اللواء المتقاعد خليفة حفتر وقائد أركان القوات البرية لما يُعرف بالجيش الوطني الليبي في الشرق الليبي، حيث عقد عدة اجتماعات مع قيادات أمنية وعسكرية مصرية رفيعة.
الزيارة تأتي في سياق توتر مكتوم بين القاهرة ومعسكر الشرق الليبي، خاصة بعد تقارير عن انفتاح إماراتي مباشر على حفتر دون المرور عبر القناة المصرية، مما أثار قلق النظام الانقلابي المصري بقيادة عبد الفتاح السيسي، الذي يعتمد على تنسيق عسكري واستخباراتي وثيق مع شرق ليبيا منذ سنوات.
يدعم السيسي بشكل واضح نظاماً عسكرياً انقلابيًا في ليبيا بقيادة خليفة حفتر وأبنائه، بمن فيهم نجل حفتر صدام، رغم ما يرافق ذلك من انتهاكات حقوقية جسيمة وتورط في نزاعات مسلحة دموية، هذا الدعم يتناقض مع الخطاب الرسمي المصري الذي يدعو إلى الاستقرار والشرعية، ويظهر ازدواجية واضحة في التعامل مع قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، إذ يقمع السيسي المعارضة الداخلية في مصر بعنف شديد، بينما يدعم قادة عسكريين في الخارج يمارسون القمع نفسه
خلفيات العلاقة.. دعم انقلاب السيسي يمتد إلى ليبيا
منذ انقلاب 3 يوليو 2013، عمل نظام الانقلاب المصري بقيادة السيسي على توسيع نفوذه في ليبيا، ودعم خليفة حفتر عسكرياً واستخباراتياً، خاصة خلال هجومه على طرابلس في أبريل 2019، حيث أظهرت تقارير الأمم المتحدة إرسال أسلحة وذخائر مصرية للشرق الليبي في انتهاك مباشر لحظر السلاح المفروض على ليبيا.
كما وفرت القاهرة الدعم اللوجستي والتدريبي لمليشيات حفتر، وأقامت غرف عمليات مشتركة، كما تم التنسيق في مجالات “مكافحة الإرهاب” و“ضبط الحدود”، وهي مصطلحات طالما استخدمت للتغطية على تدخلات مصرية في العمق الليبي لدعم مشروع عسكري معادٍ للديمقراطية.
صدام حفتر.. رجل الإمارات في ليبيا.. ومصدر قلق للسيسي؟
صدام حفتر، الذي صعد نجمه خلال السنوات الأخيرة بدعم إماراتي مباشر، يُعد شخصية مركزية في الصراع الداخلي داخل معسكر الشرق الليبي، ويواجه اتهامات متزايدة بتهميش قيادات أخرى داخل الجيش الليبي، كما أشارت تقارير استخباراتية إلى تنامي طموحاته السياسية والعسكرية في خلافة والده.
وتخشى القاهرة من أن يؤدي هذا الطموح إلى زعزعة التنسيق الأمني بين الطرفين، خاصة أن صدام يُعرف بتبعيته لأبو ظبي أكثر من القاهرة، ويُعتقد أن جزءاً من زيارته الأخيرة جاء لطمأنة المصريين، أو ربما للحصول على دعم سياسي لتوسيع نفوذه على حساب قيادات أخرى مثل عبد الرازق الناظوري.
التوتر الأمني.. انسحابات غامضة ومخاوف من إعادة التموضع
الأسابيع الماضية شهدت انسحابات غير مفسّرة لوحدات تابعة لحفتر من مناطق قريبة من الحدود المصرية، خاصة في منطقة أمساعد وطبرق، دون تنسيق واضح مع القاهرة، وهو ما اعتبره مسؤولون أمنيون مصريون "رسالة ضغط".
كما تم رصد نشاط متزايد لطائرات استطلاع مصرية في تلك المناطق، مما يشير إلى قلق حقيقي من تغيرات محتملة في الانتشار العسكري هناك، خصوصاً مع تداول أنباء عن صفقات تسليح جديدة بين حفتر وشركات أوروبية برعاية إماراتية.
الهجرة غير النظامية.. ذريعة للتدخل أم ملف تنسيق؟
من بين النقاط المعلنة للزيارة، ما قيل عن "تعزيز التعاون في ملف مكافحة الهجرة غير النظامية"، وهو ما يُستخدم كثيراً من قبل النظام المصري كذريعة لتبرير التوغل الأمني على حدود دول الجوار.
وتشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن مصر باتت نقطة عبور رئيسية لمهاجرين من ليبيا نحو البحر المتوسط، رغم الادعاءات المتكررة بضبط الحدود.
في هذا السياق، يبدو أن القاهرة تريد استغلال التعاون مع صدام حفتر لضبط المزيد من النقاط الحدودية الليبية، خاصة بعد تراجع نفوذها في غرب ليبيا، وفقدانها التأثير بعد إخفاق حفتر في السيطرة على طرابلس.
التصريحات الرسمية.. لغة دبلوماسية تخفي الصراع
البيان الرسمي الصادر عن المتحدث العسكري المصري اكتفى بالإشارة إلى "بحث سبل التعاون في الملفات ذات الاهتمام المشترك، وعلى رأسها مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية"، دون التطرق لأي تفاصيل تخص الاتفاقيات أو التحفظات.
لكن تسريبات صحفية نشرتها مواقع ليبية قريبة من معسكر الشرق أشارت إلى أن القاهرة أعربت خلال اللقاء عن انزعاجها من “الاستقلالية الزائدة” لصدام حفتر في قراراته، وعن استيائها من قنوات التواصل المباشرة بينه وبين المسؤولين الإماراتيين.
السيسي يخشى من نسخة أخرى منه في ليبيا
يرى مراقبون أن عبد الفتاح السيسي يخشى من أن يتحول صدام حفتر إلى نسخة جديدة من ذاته؛ ضابط عسكري طموح، استولى على السلطة بالقوة، ويحاول شرعنة حكمه عبر علاقات دولية وصفقات إقليمية.
وفي ظل التصدعات داخل معسكر حفتر، وسعي مصر لحماية مصالحها في الشرق الليبي، فإن العلاقة بين الطرفين قد تدخل مرحلة جديدة عنوانها "تحالف الضرورة"، في ظل غياب البدائل.
أما الشعب الليبي، كما المصري، فهو الحلقة الأضعف في هذه المعادلات، بين جنرالات يتاجرون بالأمن والسيادة، وأنظمة تستغل الحدود واللاجئين كورقة تفاوض مع الغرب.
زيارة صدام حفتر للقاهرة لم تكن مجرد زيارة روتينية، بل تحمل في طياتها رسائل استراتيجية، وصراعات مكتومة بين الحلفاء، وفي ظل هشاشة المشهد الليبي، وتخبط السياسات المصرية، قد تكون هذه التحركات مقدمة لتغييرات أكبر في ميزان القوى داخل معسكر الاستبداد الممتد من القاهرة إلى بنغازي.