"انتهاكات وعنف وفساد إداري".. هذا ما كشفته وقائع صادمة داخل مستشفى الخانكة للصحة النفسية وعلاج الإدمان، أحد أقدم وأكبر مستشفيات الطب النفسي في مصر، والتي تحوّلت إلى بؤرة للجدل والتساؤلات الحادة بشأن أوضاع مرضاها ومدى احترام القائمين عليها لأبسط حقوق الإنسان، وسط اتهامات طالت إدارتها بالتقصير والتستر والانتهاك الصريح لقانون رعاية المريض النفسي.
الانفجار بدأ مع إقالة نائب مدير المستشفى، د. بدر عباس، على خلفية اتهامات متعددة، بينها التعدي بالضرب على مريض فصامي، وانتحال صفة طبيب من قبل شاب تم تقديمه للمرضى باعتباره "أخصائيًا"، وهو في الحقيقة مجرد طالب بكلية الآداب. ورغم خطورة هذه الوقائع، لم تُحَل إلى النيابة العامة، ما فتح باب الانتقادات ضد وزارة الصحة والمجلس القومي للصحة النفسية.
اعتداء على المرضى ومنتحلو صفة أطباء
بدأت سلسلة الفضائح بتقديم الشاب محمد بكر إلى الفرق الطبية في المستشفى من قبل نائب المدير كمُختص في الطب النفسي، وجرى تكليفه بالكشف على مريضة تُعاني من حالة تهيج، قبل أن تنكشف حقيقته كطالب انتحل الصفة، ما دفع الأطباء إلى التبليغ عنه. سبق ذلك واقعة صادمة أخرى، حين اتهم د. بدر عباس بضرب مريض مصاب بالفصام والتأخر العقلي، دون اتخاذ أي إجراء إداري ضده من قبل مدير المستشفى، د. مصطفى خليل الشريف، الذي تولى منصبه في فبراير الماضي.
هذه التجاوزات دفعت المجلس القومي للصحة النفسية لإيفاد لجنة تحقيق داخلية، بينما اكتفت أمانة الصحة النفسية بعزل نائب المدير، دون اتخاذ مسار قانوني في الواقعة، ما أثار حفيظة منظمات مجتمع مدني معنية بالصحة النفسية التي اعتبرت هذا التهاون "إفلاتًا من العقاب".
اتهامات تطال المدير... ومخالفات بالجملة
المدير نفسه لم يسلم من الاتهامات؛ إذ استدعي للتحقيق في مايو بسبب شكاوى تتعلق بسوء الإدارة، بينها توقيعه بدلًا من زوجته على دفاتر الحضور والانصراف، واتهامات بتعاطيه لمواد مخدرة، حسب تقارير صحفية.
وفي تطور لافت، قدمت الأمين العام السابق للصحة النفسية، د. منن عبد المقصود، استقالتها في 8 مايو بعد سنوات من توليها المنصب، تزامنًا مع تصاعد الأزمة، لتُعيّن لاحقًا د. وسام أبو الفتوح بدلًا منها.
تحرك برلماني... وطلب إحاطة لم يُناقش
النائبة البرلمانية سناء السعيد تقدمت بطلب إحاطة عاجل إلى رئيس مجلس النواب ووزير الصحة، كشفت فيه عن ثلاث وقائع خطيرة داخل المستشفى: ضرب مرضى، انتهاك خصوصية مريضات من خلال منتحل صفة، وتعيين مسؤول مالي أدين في قضايا فساد مالي.
النائبة طالبت بإحالة الملف إلى لجنة الصحة البرلمانية، وأكدت تلقيها شكاوى من أسر المرضى تتهم الإدارة باحتجاز متعافين دون سند قانوني، ورفض إخلاء سبيلهم رغم انتهاء محكومياتهم.
لكن حتى الآن، لم تُناقش لجنة الصحة هذا الطلب، وسط غياب واضح لدور المجلس القومي للصحة النفسية في الرقابة والمحاسبة.
شهادات من الداخل... وضحايا بلا صوت
محمود فؤاد، عضو مجلس الإدارة السابق بمستشفى الخانكة ومدير "المركز المصري للحق في الدواء"، يؤكد أن نحو 35% من أسرّة مستشفيات الصحة النفسية في مصر موجودة بالخانكة، وأن "300 مريض متعافٍ" لا يزالون محتجزين بها لعدم معرفة مكان أسرهم أو رفض ذويهم استلامهم.
من جانبه، يحذر د. أحمد حسين، المدير السابق لإدارة حقوق المرضى بالأمانة العامة، من افتقار المستشفيات للكوادر، وضعف المخصصات المالية، ووجود مرضى متعافين يظلون "سجناء" مدى الحياة بسبب فراغ تشريعي، مطالبًا بنقل مسؤوليتهم إلى وزارة التضامن.
سجل قديم من الانتهاكات
الفضائح الحالية ليست الأولى؛ ففي عام 2015 توفي 10 مرضى خلال موجة حر شديدة، بسبب الإهمال الجسيم وغياب وسائل التهوية. وقتها أحيل 34 من مسؤولي المستشفى إلى المحاكمة، بينهم مديرون وأطباء وممرضون. كما تكررت حوادث الهروب من المستشفى، وسبق أن فر مرضى متهمون في قضايا قتل وهتك عرض في أعوام 2008 و2012 و2014.
خطط تطوير معلقة على جدار الانهيار
ورغم هذه الأزمات، أعلنت وزارة الصحة في 2023 عن خطة لتحويل مستشفى الخانكة إلى أول مدينة طبية متكاملة للصحة النفسية والإدمان والمسنين. المشروع، الذي حظي بتوجيهات يشمل إنشاء مستشفى طوارئ، وتوسعة سعة المستشفى إلى 1800 سرير، ضمن خطة تطوير البنية التحتية للمستشفى الذي بُني عام 1912 على مساحة كانت 570 فدانًا.
لكن مراقبين يرون أن الخطة تتناقض مع المعايير العالمية التي تدعو لتفكيك المستشفيات الكبيرة لصالح منشآت أصغر، وتخوفوا من أن يكون الهدف "تجميليًا" أكثر من كونه إصلاحيًا، في ظل الانهيار الإداري وغياب المحاسبة وتكرار الانتهاكات.
دعوات لإصلاح شامل ومساءلة عاجلة
د. علاء غنام، رئيس وحدة الحق في الصحة بالمبادرة المصرية، دعا إلى تشكيل مجالس أمناء بالمستشفيات النفسية، وتفعيل لجان حماية حقوق المرضى، إلى جانب إنشاء مجلس أعلى للصحة يتولى التخطيط الاستراتيجي للقطاع بأكمله.
أما قانون رعاية المريض النفسي رقم 71 لسنة 2009، والذي شكّل نقلة نوعية في حماية المرضى من الانتهاكات، فلا يزال يفتقر إلى آليات تنفيذ فعّالة، ولا يغطي فجوات قانونية مثل مصير المتعافين المجهولين.