مع تصاعد الحرب بين إيران وإسرائيل واحتمالات دخول الولايات المتحدة على خط المواجهة، تواجه الموازنة المصرية للعام المالي 2025–2026 اختبارًا قاسيًا على مستوى واقعية تقديراتها وقدرتها على التكيّف مع الأزمات الخارجية المتسارعة. وفي خطوة أثارت جدلًا واسعًا، أقر مجلس النواب بحكومة الانقلاب الموازنة العامة الجديدة للدولة و63 هيئة اقتصادية حكومية دفعة واحدة، خلال جلسة واحدة يوم الثلاثاء الماضي، بعد أقل من 24 ساعة من طرحها للمناقشة.
ورغم طلب أكثر من 590 نائبًا الكلمة، لم يُسمح إلا لـ70 منهم بإبداء آرائهم، ما أثار انتقادات لتمرير الموازنة بسرعة غير مسبوقة، خاصة مع تأخر مناقشتها حتى أسبوعين فقط قبل بداية العام المالي في 1 يوليو المقبل.
أرقام غير متوازنة ومؤشرات مثيرة للقلق
تبلغ القيمة الإجمالية للموازنة الجديدة نحو 6.8 تريليونات جنيه (ما يعادل 136 مليار دولار)، بينما تتوقع حكومة السيسي إيرادات لا تتجاوز 3.3 تريليونات جنيه (66 مليار دولار)، أي أن الإيرادات تغطي أقل من نصف حجم الإنفاق المقرر (48.5%).
وتعتمد الموازنة بشكل كبير على الضرائب، التي يُنتظر أن تسهم بنحو 2.6 تريليون جنيه (52 مليار دولار)، وهو ما يمثل 78.8% من إجمالي الإيرادات العامة، و38.2% من حجم الموازنة ككل. هذا الاعتماد الكثيف على الضرائب يضعف مرونة الدولة المالية، خصوصًا في ظل ضغوط محتملة على النشاط الاقتصادي.
في المقابل، تستنزف خدمة الدين المحلي والخارجي – المقدّرة بنحو 2.1 تريليون جنيه (42 مليار دولار) – ما نسبته 63.6% من إجمالي الإيرادات العامة، و30.9% من إجمالي حجم الموازنة، في واحدة من أعلى النسب في تاريخ مصر الحديث، مما يكرس دائرة مغلقة من التحصيل الضريبي لتسديد الديون، ويحد من القدرة على توجيه الإنفاق للتنمية والخدمات الأساسية.
هشاشة في مواجهة التحديات الجيوسياسية والاقتصادية
يشير هذا الخلل البنيوي إلى أن الموازنة مرهونة بعاملين رئيسيين: كفاءة تحصيل الضرائب، واستقرار أسواق الدين. ومع اشتداد التوترات في المنطقة، وارتفاع أسعار الطاقة، وتزايد كلفة الاستيراد، تبدو قدرة الحكومة على تحقيق مستهدفات الإيرادات مهددة، خاصة مع تباطؤ الإنتاج وركود قطاعات حيوية.
كما أن تأثر مصر المباشر بتعطل إمدادات الغاز من إسرائيل، وزيادة الاعتماد على المازوت والغاز المسال بأسعار مرتفعة، يزيد من الضغط على فاتورة الدعم والوقود، ما قد يفاقم عجز الموازنة ويدفع نحو مزيد من الاقتراض.
نحو فجوة تمويلية متزايدة
يرى خبراء اقتصاد أن استمرار الاعتماد المفرط على الضرائب مع تصاعد خدمة الدين يهدد بتحقيق فجوة تمويلية متسعة، يصعب سدها دون اللجوء إلى أدوات مالية قاسية، كرفع أسعار الفائدة أو تقليص الدعم أو التوسع في الاقتراض.
وفي ظل غياب إصلاحات هيكلية حقيقية، فإن حكومة السيسي قد تجد نفسها أمام معادلة معقدة: إما مواجهة الغضب الشعبي بسبب إجراءات تقشف إضافية، أو المجازفة بمزيد من تدهور التصنيف الائتماني والاستدانة بشروط أثقل.
الحرب تربك الموازنة
كشفت نشرة إنتربرايز الاقتصادية، أمس السبت، نقلًا عن مصدر حكومي رفيع، أن حكومة السيسي قد تجد نفسها مضطرة لإجراء تعديلات على الموازنة العامة للعام المالي 2025–2026، في حال استمرار التصعيد العسكري بين إسرائيل وإيران، خاصة إذا تطور الصراع ليشمل تدخلًا أميركيًا مباشرًا.
وأوضح المصدر أن التعديلات المحتملة قد تمسّ بنودًا رئيسية مثل الإيرادات والمصروفات والعجز الكلي، مرجحًا أن يتم ذلك إما خلال النصف الثاني من العام المالي، أو قبل انتهاء دور الانعقاد البرلماني في أكتوبر المقبل، إذا استدعت الظروف ذلك.
وأشار إلى أن استمرار التوترات الإقليمية قد يُجبر الحكومة على فتح اعتماد إضافي لتغطية الزيادات المتوقعة في تكلفة استيراد السلع الأساسية ومستلزمات الإنتاج، خصوصًا إذا شهد الجنيه المصري مزيدًا من التراجع أمام العملات الأجنبية.
وبحسب المصدر، تدرس الحكومة أيضًا مراجعة مستهدفاتها من الحصيلة الضريبية، والمقدّرة بنحو 2.6 تريليون جنيه، في ظل مخاطر انخفاض الإيرادات الفعلية نتيجة تباطؤ النشاط الاقتصادي وتقلّب الأسواق.
كما حذر من أن استمرار الحرب في المنطقة قد يُلقي بظلاله السلبية على أول إصدار للصكوك السيادية المحلية، عبر رفع تكلفة التمويل أو تقليص شهية المستثمرين. كذلك قد تتأثر خطط طرح 11 شركة حكومية ضمن برنامج الطروحات العامة، إذ من المتوقع أن يتأجل تنفيذ بعضها إلى الربع الثاني من العام المالي المقبل، في حال ظلت أجواء الحذر تسيطر على الأسواق الإقليمية والدولية.
صدمة نفطية تلوح في الأفق: موازنة مصر تحت الضغط
مع تصاعد التهديدات الأميركية بشن ضربات عسكرية ضد طهران، تتزايد التوقعات بحدوث صدمة كبرى في أسواق النفط العالمية، ما ينذر بعواقب مباشرة على موازنة مصر الجديدة للعام المالي 2025–2026، في ظل اعتماد البلاد على استيراد نسبة كبيرة من احتياجاتها من الطاقة، سواء للاستهلاك المحلي أو لتوليد الكهرباء.
وقد بنت حكومة السيسي تقديراتها المالية على أساس سعر برميل النفط عند 75 دولارًا، إلا أن أي ارتفاع فوق هذا المستوى سيضيف أعباء مالية ضخمة على الموازنة العامة. ووفقًا لتقديرات رسمية، فإن كل دولار إضافي في سعر النفط يكلّف مصر نحو 197 مليون دولار شهريًا، أي ما يعادل 2.4 مليار دولار سنويًا، ما يعني أن تجاوز السعر حاجز 90 أو 100 دولار سيؤدي إلى استنزاف سريع لمخصصات الدعم، وقد يفرض على الحكومة فتح اعتمادات إضافية، أو اللجوء إلى إعادة ترتيب الأولويات وتقليص بنود إنفاق اجتماعي أو استثماري.
ويحذر محللون من أن السيناريو الأسوأ – أي امتداد الحرب إلى نطاق أوسع في المنطقة – سيؤدي إلى قفزة دراماتيكية في أسعار النفط. وقال أماربريت سينغ، المحلل في بنك "باركليز"، لوكالة رويترز، إن "توسع رقعة الصراع قد يدفع بأسعار النفط لتتجاوز حاجز 100 دولار للبرميل بسهولة".
من جهته، أشار فريق من المحللين في بنك "غولدمان ساكس"، بقيادة دان سترايفن، إلى أن "هيكل خيارات أسعار النفط في الأسواق العالمية يعكس توقعات بارتفاع حاد في المدى القصير". وبدوره، حذّر راسل شور، كبير محللي السوق في منصة "ترايدو دوت كوم"، من أن "التهديدات المستمرة للإمدادات النفطية في الشرق الأوسط لا تزال قائمة، وترتبط بشكل كبير بإمكانية تدخل عسكري أميركي مباشر".
وفي هذا السياق، تبدو موازنة مصر الجديدة في وضع هشّ أمام تقلبات السوق العالمي، في وقت يعاني فيه الاقتصاد المحلي من تحديات هيكلية قائمة، بينها ارتفاع خدمة الدين، وتراجع الإنتاج المحلي من الطاقة، وضعف موارد النقد الأجنبي. وتشير التقديرات إلى أن أي اضطراب كبير في سوق الطاقة سيمثل ضربة مزدوجة لمصر: الأولى عبر ارتفاع فاتورة الاستيراد، والثانية من خلال تهديد خطط تصدير الغاز المسال، التي تعد أحد أبرز مصادر العملة الصعبة حاليًا.