في مشهد يعكس التناقض الحاد في تعاطي الإعلام السيساوي مع السياسات الحكومية، عاد الجدل مجددًا إلى الساحة بعد إعلان حكومة الانقلاب، خلال يونيو 2025، تطبيق خطة لترشيد استهلاك الكهرباء، شملت تخفيض الإنارة في الشوارع وإغلاق المحال التجارية في مواعيد محددة.
ما أثار الانتباه هذه المرة ليس فقط مضمون القرار، بل المفارقة الصارخة بين الموقف الحالي للإعلاميين المؤيدين للنظام، ومواقفهم السابقة إبان حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، حين شنوا هجومًا عنيفًا ضده بسبب قرارات مشابهة.
قرارات حكومية في ظل أزمة طاقة
أعلنت حكومة السيسي العودة إلى العمل بخطة الطوارئ في قطاع الكهرباء، بما يشمل تقليص إنارة الشوارع والمباني الحكومية، وتحديد مواعيد إغلاق للأنشطة التجارية ليلًا، وذلك بعد توقف إمدادات الغاز الإسرائيلي إثر التصعيد العسكري بين تل أبيب وطهران. كما لجأت الحكومة إلى شراء شحنات عاجلة من المازوت بمليار دولار لتغطية عجز المحطات، وأصدرت تعليمات بترشيد استخدام المحروقات في المؤسسات والمصانع.
القرار الذي قُدم للمواطنين على أنه إجراء "ضروري ومؤقت" لمواجهة تحديات الطاقة، أعاد إلى الأذهان قرارات مماثلة أصدرها الرئيس الأسبق محمد مرسي عام 2013 في محاولة للتعامل مع أزمة نقص الوقود وانقطاعات الكهرباء، والتي قوبلت آنذاك بحملة إعلامية شرسة.
ذاكرة الإعلام الانتقائية
مع تصاعد أزمة الطاقة مجددًا، أعاد رواد مواقع التواصل الاجتماعي نشر مقاطع أرشيفية لإعلاميين بارزين، هاجموا مرسي بشدة بسبب قرارات مماثلة لترشيد الكهرباء، حيث وصفوها حينها بـ"العبث"، واتهموا الرئيس بـ"العجز عن إدارة الدولة"، و"تحميل المواطنين أعباء الفشل".
من بين هؤلاء الإعلامي أحمد موسى، الذي قال في 2013 إن "رئيس الجمهورية لا يعرف شيئًا عن إدارة البلاد، ويريدنا أن نعيش في ظلام كما يعيش في كهف".
بينما قال موسى في عهد قائد الانقلاب السيسي: ترشيد استهلاك الكهرباء مش عيب.. بلاش نشغل التكييفات كلها في وقت واحد"
https://www.youtube.com/watch?v=eQUbqUscr1g
في هذا الفيديو، يوضح أحمد موسى أن "ترشيد استهلاك الكهرباء مش عيب"، مشجعًا الجمهور على التخفيف من استخدام التكييف بهدف الحفاظ على المنظومة الكهربائية.
وأكد موسى أيضًا أن التخفيضات الحالية ليست بمثل أزمة “انقطاع التيار” أيام حكم محمد مرسي، رغم أن الإجراءات متشابهة في جوهرها .
ويعترف موسى بأن الحد من استخدام التيار لا يعني العيش في "ظلام مرسي"، رغم تشابه الإجراءات الجذرية المطبقة آنذاك
https://www.youtube.com/watch?v=eQUbqUscr1g
وأمسَك موسى عمود النقد والإدانة لقرارات ترشيد الكهرباء في عهد مرسي ووصفها بـ"أيام الظلام"، بينما يدافع عنها اليوم.
https://www.youtube.com/watch?v=BfxWxi3o7Fo
كما يُستعاد أرشيف الإعلام عن أزمة الكهرباء في عهد مرسي، حيث يظهر تسجيل لعمرو أديب وهو يستهزئ قائلًا: "يا مستني الكهرباء ترجع في مصر يا مستني مرسي يرجع القصر".
وهذا يظهر الوجه الآخر تمامًا: ذات الإجراءات، ونفس السياق، لكن بالعكس: حين كان يتحدث عن مرسي، سخر، والآن يصف الإجراءات الحالية بالحكيمة والمسؤولة.
كما اتهم الإعلامي عمرو أديب الحكومة آنذاك بأنها "تقتل الحياة الليلية في مصر"، و"تدمر الاقتصاد"، فيما شن يوسف الحسيني حملة يومية ضد وزارة الكهرباء، معتبرًا أن تخفيف الأحمال "جريمة بحق المواطن".
لكن المفارقة أن نفس الأصوات ظهرت مؤخرًا على الشاشات وهي تبرر الإجراءات الحكومية الجديدة، وتدعو المواطنين إلى التحمل من أجل "المصلحة الوطنية"، مع تحميل أطراف خارجية مثل إيران وإسرائيل مسؤولية تداعيات الأزمة. وقال أحمد موسى في برنامجه، قبل أيام، إن "ترشيد الكهرباء ضرورة وطنية في ظل الحرب"، واصفًا إجراءات الحكومة بأنها "حكيمة ومسؤولة".
ولخصت قناة الجزيرة كيف تعاطي الإعلام مع انقطاع الكهرباء في عهدي مرسي والسيسي:
https://www.youtube.com/watch?v=bNAeELPvZuo
شيزوفرينيا إعلامية
ويبرز من خلال إعلام السلطة في مصر الشيزوفرينيا الإعلامية ومن أهمها:
1 - الخطاب المناقض
إعلاميو النظام تصدر تصريحات صارخة حين وجدت السياسات تحت حكم مرسي — “ظلام”، “فشل”، “عصر الانقطاع” — حتى تطورت إلى أداة اغتيال سياسي.
بينما نفس السياسات —الاحترازية والمدروسة لنفس المشكلة — يتم تبريرُها وتبرئةُ الحكومة الحالية من أي فشل.
2 - تطويع الخطاب حسب السلطة
عندما كانت الإجراءات لمرسي، كانت أزمة مصيرية تهدد الشعب.
اليوم، وهي بنفس المحتوى، باتت خطوة محسوبة “من أجل الوطن”، تُمدح وتتغنى بها الشاشات.
3 - توجيه المشاعر وليس الحقائق
الفيديوهات السابقة تتلاعب بعواطف الجمهور ضد مرسي، بينما تدعو اليوم لتحمّل الإزعاج مؤقتًا.
نفس الجمهور يُطلب منه تذكّر “الظلام في العهد السابق” — لتعزيز شرعية السلطة الراهنة.
نشطاء: مرسي حوكم إعلاميًا بينما يصفق النظام الحالي لنفسه
تداول نشطاء ومعارضون صورًا ومقاطع فيديو توثق هذه التناقضات، تحت وسوم مثل #مرسي_كان_على_حق و#الكهرباء_في_عهد_السيسي، مشيرين إلى أن ما يُعد الآن قرارًا شجاعًا كان قبل سنوات يُصور كدليل على فشل جماعة الإخوان المسلمين في الحكم.
وكتب الباحث السياسي عبد الله الشحات عبر حسابه على منصة "إكس" (تويتر سابقًا): "مرسي قرر تقنين الكهرباء لأيام معدودة فذبحوه إعلاميًا، أما اليوم فالحكومة تعيش في ترشيد دائم وسط تصفيق وصمت".
من جانبه، قال الحقوقي هيثم غنيم إن "الفرق بين العهدين هو الموقف من النظام لا من السياسات"، مضيفًا أن "الإعلام في مصر فقد صوته المهني، وأصبح لسان حال السلطة مهما تناقضت قراراتها".
رسائل متناقضة إلى الشعب
يرى مراقبون أن التناقض الإعلامي في التعامل مع نفس السياسات، يفتح بابًا واسعًا للتشكيك في نزاهة الرسائل التي تُوجه للمجتمع، ويكرّس الانقسام السياسي، حيث تُصوّر الإجراءات وفق هوية من يتخذها لا وفق مضمونها أو نتائجها.
وبينما تستمر حكومة السيسي في فرض إجراءات تقشفية على المواطنين، دون أي إجراءات تقشف موازية على مؤسسات الدولة أو قطاعات النخبة، تتسع هوة الثقة بين الشارع والسلطة، خاصة أن تبرير كل قرار بوجود "ظروف طارئة" لم يعد مقنعًا بالنسبة لكثير من المصريين الذين تحملوا سنوات من الغلاء وانخفاض جودة الخدمات.
وفي الوقت الذي تتطلب فيه الأزمات الحقيقية خطابًا إعلاميًا موحدًا وواقعيًا يحترم عقل الجمهور، يُظهر تعامل الإعلام المصري مع أزمة الكهرباء الحالية عمق الأزمة البنيوية في المشهد الإعلامي، حيث تغيب المهنية ويحل الولاء محل التحليل، فيُهاجم القرار عندما يصدر عن خصم سياسي، ويُمجّد عندما يأتي من الحليف، وإن كان هو نفسه في المضمون والتأثير.