في شوارع مصر المكتظة ومناطقها الصناعية المترامية، من برج العرب إلى العاشر من رمضان، ومن حلوان إلى المحلة الكبرى، تتردّد شكوى متكرّرة على ألسنة أصحاب المصانع والمستثمرين: "لا نجد من يُتقن المهنة". فالسوق المصرية تشهد نزيفًا مستمرًا في العمالة الفنية المدربة، وسط موجة هجرة متصاعدة نحو الخليج، وتحوّل داخلي واسع النطاق نحو المهن العشوائية ذات الدخل السريع.
باتت الورش تفرغ من عمّالها المهرة، والخطوط الإنتاجية تتباطأ أو تتوقف، رغم وفرة المعدات وتوافر الطلب. والسبب: أزمة عميقة في العنصر البشري، تنذر بتقويض كل خطط "توطين الصناعة" ورفع مساهمتها في الناتج المحلي.
"لا نُنتج بلا إنسان"
المدير التنفيذي لأحد مصانع المنتجات البلاستيكية في برج العرب، محمد فوزي، يلخص المأساة قائلاً: "نتلقى طلبيات تصدير ونعجز عن تنفيذها. نبحث منذ شهور عن فنيين، لكن لا أحد يأتي، ومن يحضر لا يمتلك حتى المهارات الأولية". ويضيف بأسى: "من يُجيد العمل إمّا سافر للخليج أو ترك المجال نهائياً".
المشكلة لا تقتصر على القطاع الخاص فحسب، إذ تؤكد النائبة إيفلين متى، عضوة لجنة الصناعة بمجلس النواب، أن النقص طال حتى الجهات الرقابية التابعة لوزارة الصناعة، مثل معاهد التبين وهيئات ضمان الجودة. وقالت في طلب إحاطة حديث، إن العمالة الفنية المؤهلة "هي ذراع الدولة في الرقابة والتعليم الصناعي، وغيابها يهدد منظومة التصنيع برمتها".
الأرقام لا تكذب: 2 مليون فقط!
بحسب تقرير صادر عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، يعمل نحو مليوني شخص فقط في قطاع الحرف اليدوية في مصر حتى مطلع عام 2024، رغم أن إجمالي القوة العاملة يبلغ أكثر من 32 مليونًا. هذه النسبة الصادمة توضح عمق التراجع في سوق المهارات، وتعكس اختلالاً هيكليًا في توجهات الشباب وسوق العمل.
"التوك توك" أولاً.. والمصنع أخيراً
في الإسكندرية، يؤكد يوسف الجعراني، عضو الغرفة التجارية، أن الشباب يفرّون من المهن الحرفية نحو مهن غير رسمية مثل قيادة "التوك توك" أو جمع القمامة وبيع المخلفات، "لأنها تحقق دخلًا يوميًا دون التزامات أو مهارات". ويضيف: "لا توجد حوافز، ولا حماية اجتماعية أو صحية، ولا حتى احترام مجتمعي للحرفيين".
من جانبه، يشير محمد عطية الفيومي، رئيس الغرفة التجارية بالقليوبية، إلى أن السياسات الاقتصادية الحالية تفتقر لرؤية حقيقية تحفز على توليد الوظائف اللائقة. "لن تُحل الأزمة بالتمويل والمصانع وحدها، بل لا بد من عنصر بشري مدرّب، وهذا ما نفتقده بشدة".
التعليم الفني.. فجوة تتسع
محمد محرم، نائب رئيس جمعية رجال الأعمال في الإسكندرية، يصف التعليم الفني بـ"القشرة النظرية الفارغة". ويقول إن المؤسسات التعليمية فشلت في تزويد الطلاب بالمهارات اللازمة، مما جعل الخريجين عاجزين عن دخول سوق العمل الصناعي، في ظل تطورات مهنية سريعة لا تواكبها المناهج.
ويحذر محرم من أن القطاع غير الرسمي يستقطب الملايين من الشباب سنويًا، ما يؤدي إلى فراغ تام في سوق المهارات، ويجعل أي توسع صناعي مستقبلي "خطوة في الفراغ".
أزمة ثقافية.. لا فقط تعليمية
ترى الباحثة الاجتماعية نجلاء عبد المنعم أن النظرة المجتمعية السلبية للمهن الحرفية لعبت دورًا كبيرًا في تفاقم الأزمة. وتقول: "الأسر تدفع أبناءها للتعليم الجامعي النظري، رغم معرفتها بأن سوق العمل مشبع، في حين تزدري العمل اليدوي، رغم احتياج السوق الملح له".
وتحذر عبد المنعم من أن استمرار الأزمة سيدفع المستثمرين إلى الاستعانة بعمالة وافدة من الخارج، مما يفقد مصر ميزة التكلفة والأولوية في فرص العمل. وتضيف: "لا يمكن أن نقيم نهضة صناعية حقيقية دون بناء الإنسان المنتج، وهذا ما تغفله السياسات".