وائل قنديل

كاتب صحافي مصري

 

مات القاضي المعروف باسم "قاضي الإعدامات في مصر"، فاندلعت حالة فرح عارمة، أو بالحدّ الأدنى ارتياح كبير، تجاوز شعور الشماتة في موت شخصٍ كان جزءًا من دائرة ظلم مخيفة خنقت البلاد والعباد منذ 12 عامًا، إلى إحساس بردّ الاعتبار بقرار إلهي، استقبلته أطيافٌ متعدّدة ومتنوّعة فكريًا بكثير من الحمد والشكر.

هنا، ليس ثمّة شماتة بالموت، بل هو موقف امتنانٍ للموت عبّرت عنه قطاعات واسعة في المجتمع المصري من اليسار واليمين، ومن الذين اكتووا بأحكامه الخرافية مباشرة، وكذلك من الذين صدمتهم هذه الأحكام، التي جعلت قيمة العدالة محلّ شكّ، وكانت من الأسباب الرئيسة في احتلال مصر مركزًا متدنّيًا في مؤشّر العدالة في العالم.

كانت هذه الحالة من المبالغة في التعبير عن الامتنان لموت القاضي أشبه بحكمٍ تُصدره الجماهير بإعدام قاضٍ في محاكمة علنية توافرت فيها ملايين من أوراق الإدانة وأدلّة ثبوت الاتهامات، وشارك فيها حقوقيون وسياسيون وإعلاميون، لا يمكن في أي حال اعتبارهم شامتين في شخص، بل الأقرب إلى الدقّة أنهم شعروا بأن قطعةً كبيرةً في ترسانة ظلم شديد قد خرجت من الخدمة أو عطّلتها العدالة الإلهية، فانطلقوا يسلّطون الضوء على تلال من المظالم لا تزال مستمرّة.

انطلق الناس يقلّبون في أرشيف الرجل وأرشيف العدالة في مصر، على مدى أكثر من عشر سنوات، ويستخرجون أوراقًا تدين عصرًا وسياقًا عامًّا خنق الناس، وأدخل حزنًا وفقدًا وإهانات على عشرات آلافٍ من البيوت كانت عامرةً فتهدّمت، ومن أكثر الأوراق إدانةً للمنظومة كلّها أن الأحكام صارت كأنها قرارات سياسية وأمنية، أو بالحدّ الأدنى خاضعةً لها، ومن ذلك أن القاضي الميّت اتّقد به الشطط الشخصي، فكان يتعمّد إهانة الذين يلتمّسون العدل من المنصّة التي يجلس فيها، على نحو ما جرى مع الرئيس محمّد مرسي، شهيد اللاعدالة في مصر، والذي بلغ التعنّت والعسف والاستخفاف والسخرية معه، أمام هذا القاضي، وغيره ممّن يشبهونه، أن الرجل كاد يبكي على ما أصاب (وسوف يصيب) مرفق العدالة، حين توجّه إلى قاضى محاكمته في قضية اقتحام السجون عقب الانتهاء من سماع شاهد الإثبات بالقول: "أنا لا أسمعك كثيرًا ولا أسمع الشاهد بتاتًا، وأنا معرفش الشاهد قال إيه"، واصفًا محاكمته بأن "ما يحدث تهريج وسيزول، وأنا أخشى عليكم أنتم من مصداقية الأحكام، وعدم ثقة الناس فيها". فكان ردّ القاضى: "إحنا واثقين من أنفسنا أوي أوي".

حكم هذا القاضي بالإعدام على مقاومين فلسطينيين في سجون الاحتلال الصهيوني منذ تسعينيّات القرن الماضي، لكنّه أصدر أحكامًا بإدانتهم في قضية وقعت أحداثها في2011 داخل مصر، إذ أحال أوراق المقاوم الفلسطيني رائد العطّار، الذي استشهد في عدوان إسرائيل عام 2014 على قطاع غزّة، وحسن سلامة، المعتقل في سجون العدو الإسرائيلي منذ 1996، إلي المفتي.

تحتاج ردّات فعل المجتمع المصري على موت القاضي دراسة عميقة من خبراء علوم الاجتماع والنفس والقانون، وخصوصًا أن هذا الشعور العام بالانتصار (أو ردّ الاعتبار) لم يشمل الإسلاميين فقط، بل كان جزءًا منه مثقّفون وقانونيون ومواطنون يشاهدون بأعينهم ويسمعون بآذانهم قصص غياب العدل والرحمة، في مجتمعٍ لم يعد يملك سوى الدعاء بانزياح هذا الكابوس، ولا يصحّ، والحال كذلك، الثرثرة بأنها شماتة من "الإخوان" أو غيرهم، فمن يلقي نظرةً على مواقع التواصل الاجتماعي ستفاجئه هذه الحالة من الإحساس ببعض الإنصاف يأتي من السماء، بعد أن صار مُطارَدًا في الأرض.

على أن السؤال المزلزل في هذا المناخ هو: هل يوجد شيء في هذه الحياة يستحقّ أن يختار إنسان لنفسه مثل هذه النهاية؟