في حلقة جديدة من مسلسل العبث الإداري وإهدار المال العام الذي بات سمة مميزة لـ"جمهورية الانقلاب"، استيقظت محافظة أسيوط على وقع معاول الهدم التي لم ترحم حجراً ولا تاريخاً. محافظ الانقلاب، هشام أبو النصر، يقود ما وصفه المواطنون بـ"المذبحة" ضد الهوية البصرية للمدينة، مصدراً قرارات إزالة عشوائية لميادين ومجسمات جمالية أنفقت عليها الدولة ملايين الجنيهات قبل سنوات قليلة، ليعيد هدمها اليوم بلا خطة واضحة ولا مبرر منطقي، سوى الرغبة المحمومة في تدوير "سبوبة" المقاولات على حساب جيوب المواطنين وذاكرة المدينة.
"الحمامة" و"الكف".. مشاريع تُبنى لتُهدم
لم تكن إزالة مجسم "الحمامة" الشهير في شارع الهلالي مجرد قرار إداري، بل كانت جريمة مكتملة الأركان في حق التخطيط العمراني. هذا الرمز، الذي ظل لسنوات علامة بصرية مميزة لقلب المدينة، تحول بين ليلة وضحاها إلى كومة من الركام، دون أن يكون آيلاً للسقوط أو يعيق حركة المرور. الإزالة تمت بقرار فوقي مباشر من المحافظ، ودون طرح أي بديل، في مشهد عبثي يؤكد أن السلطة الحاكمة لا تقيم وزناً لاستقرار المشهد الحضاري، وتتعامل مع الميادين العامة كأنها ملكية خاصة لجنرالاتها يعبثون بها كيفما شاؤوا.
الأكثر استفزازاً كان مصير "ميدان الجامعة" (مجسم الكف)، الذي أُنشئ عام 2022 وسط دعاية حكومية صاخبة. لم يمر على إنشائه سوى ثلاثة أعوام حتى صدر قرار إزالته، ليفتح الباب واسعاً أمام تساؤلات مشروعة عن مصير الملايين التي أُنفقت على إنشائه، ومن يحاسب المسؤولين عن هذا الهدر السافر؟ في دولة القانون، يُحاكم المسؤول عن هذا التخبط، أما في دولة الانقلاب، فإن الهدم هو مجرد بند جديد في ميزانية "الفساد المقنن".
"أم البطل" و"عمر مكرم".. طمس الرموز التاريخية
امتدت يد التخريب لتطال رموزاً وطنية وتاريخية، حيث تمت إزالة تمثال "مصر والسلام" المعروف بـ"أم البطل" من محيط المحكمة، واختفت النافورة الجمالية الملحقة به، دون تقديم أي تفسير للأهالي. كما تم تقليص مساحة دوران تمثال "عمر مكرم" أمام بوابة الجامعة، في تغيير قسري لمعالم المنطقة.
هذه التحركات العشوائية ليست مجرد "تطوير" كما يزعم إعلام السلطة، بل هي عملية ممنهجة لمحو الذاكرة البصرية للمدينة، واستبدالها بكتل خرسانية قبيحة أو طرق سريعة تخدم منظومة "الأسفلت" التي يقدسها النظام، متجاهلاً البعد الإنساني والجمالي للمكان. إن إصرار المحافظة على تنفيذ هذه الإزالات بشكل مفاجئ وسري، ودون إشراك المجتمع المدني أو الخبراء، يعكس عقلية عسكرية لا تؤمن بالحوار ولا تعترف بحق المواطن في مدينته.
إهدار المال العام.. سياسة دولة أم فساد محلي؟
ما يحدث في أسيوط ليس استثناءً، بل هو نموذج مصغر لسياسات النظام الانقلابي في عموم مصر. مشاريع تُفتتح اليوم لتُهدم غداً، وكباري تُبنى فوق أنقاض التاريخ، وميزانيات مفتوحة بلا رقابة تُصرف في "اللاشيء". المواطن الأسيوطي، الذي يعاني من تدهور الخدمات الأساسية والغلاء الفاحش، يقف مذهولاً أمام هذه الجرارات التي تهدم ميادين كانت قائمة وبحالة جيدة، متسائلاً: ألم يكن من الأولى توجيه هذه الأموال لصيانة المدارس المتهالكة أو تحسين المستشفيات البائسة في الصعيد؟
هوية في مهب الريح
إن "مذبحة ميادين أسيوط" هي رسالة واضحة من نظام الانقلاب مفادها أن لا شيء مقدس في هذا الوطن، لا التاريخ ولا المال العام ولا ذوق المواطنين. الميادين التي شكلت جزءاً من وجدان الناس تحولت إلى ضحية جديدة لسياسات المقاولة العشوائية، ليبقى السؤال معلقاً بلا إجابة: إلى متى سيظل تاريخ مصر وهويتها العمرانية رهينة لمزاجية مسؤولين لا يملكون رؤية ولا كفاءة، ولا يتقنون سوى فن "الهدم"؟

