يأتي كلام السيسي لعلماء الأزهر ودعاة الأوقاف: «انتوا مش حراس العقيدة ولا حراس الشريعة.. خليكوا حراس الحرية» في قلب مشروع سياسي متكامل للهيمنة على الدين، لا لتحريره، عبر انتزاع حق العلماء في تعريف العقيدة والشريعة، ومنح هذا الحق لرأس النظام العسكري نفسه.
ظاهر الخطاب «تحريرى» يتحدث عن حرية الاعتقاد، لكن باطنه هو تجريد المؤسسة الدينية من وظيفتها التاريخية، وتحويل الأئمة إلى حرس فكري يبرّر انسلاخ الدولة عن الشريعة باسم «الحرية» التي يحتكر تعريفها نظام يقمع كل أشكال الحرية السياسية والاجتماعية على الأرض.
ما الذي قاله السيسي بالضبط؟
في لقاء مع دعاة الأوقاف، سألهم السيسي: «أنا قلت لكم نبقى حراس إيه؟»، فأجابه بعضهم تلقائيًا: «حراس الدين» أو «حراس الشريعة»، فصحح لهم: «لا.. مش حراس العقيدة ولا حراس الشريعة.. خليكوا حراس الحرية، الحرية اللي ربنا اداها للإنسان عشان يؤمن بيه»، كما ظهر في مقاطع موثقة من اللقاء. وفي سياق الخطاب نفسه، تحدث عن ضرورة «تشكيل تيار مستنير يجابه التخلف الديني والانحطاط الإسلامي والغث الذي بدأ من 1400 سنة»، في إشارة صريحة إلى تراث إسلامي كامل يختزله في «غث» و«انحطاط ديني».
هذا ليس مجرد زلّة لسان؛ السيسي يتحدث هنا كمنصّب نفسه مرجعًا أعلى فوق المؤسسة الأزهرية، يعلن أن وظيفة العلماء التاريخية كـ«حراس للعقيدة» لم تعد مقبولة، وأن عليهم إعادة تعريف دورهم وفق التصور الذي يرسمه هو: حراسة «حرية» يحدّد هو سقفها ومضمونها، وليست الحرية التي يفهمها المسلم من نصوص الوحي ومصادر الشريعة.
خطورة نزع صفة «حارس العقيدة» عن العلماء
عبر التاريخ، كان دور العلماء – خصوصًا مؤسسة بحجم الأزهر – هو صيانة العقيدة من التحريف، وحماية المجتمع من الانحراف العقدي والفكري السلطوي، والقيام بدور الضمير الديني في مواجهة تجاوزات الحكام. هذه الوظيفة هي ما يحاول السيسي نزعها عن العلماء حين يقول لهم صراحة: «أنتم لستم حراس العقيدة». بهذا النزع، يصبح «حارس العقيدة» الحقيقي هو الدولة ذاتها، أو «القيادة السياسية» التي تقرر ما هو الدين المقبول، وما هو «التخلف والانحطاط».
في لحظة واحدة، يتحول الأزهر من مؤسسة لها سلطة رمزية على الحاكم إلى مؤسسة موظفة تحت سلطة الحاكم، يطلب منها أن تحرس خطابه عن «الحرية» و«التنوير» بدل أن تحرس نصوص الوحي وحدود الشريعة. النتيجة المباشرة هي قتل أي احتمال لأن يلعب العلماء دورًا رقابيًا أو نقديًا تجاه السياسات التي تصطدم بقيم الدين، لأنهم لو فعلوا ذلك سيُتهمون فورًا بأنهم «حراس عقيدة متشدّدون» وليسو «حراس حرية» كما يريد الجنرال.
«حراس الحرية» في دولة بلا حرية!
المفارقة الفجّة أن السيسي يطالب الأئمة بأن يكونوا «حراس الحرية، بما في ذلك حرية الاعتقاد»، بينما نظامه يسجن معارضيه، ويغلق المجال العام، ويطارد حتى منشورات الفيسبوك وتغريدات تويتر بقوانين «مكافحة الإرهاب» و«الجريمة الإلكترونية». كيف يمكن لإمام أن يأخذ درسًا في «حراسة الحرية» من قائد انقلاب دموي يملأ السجون بآلاف المعتقلين، وبينهم علماء ودعاة من كل التيارات؟!
هذه الازدواجية تكشف جوهر المشروع: المطلوب ليس حرية حقيقية، بل إعادة تعريف الحرية بما يخدم السلطة؛ حرية في «تخفيف» حضور الدين في المجال العام، وحرية في قبول الأمر الواقع السياسي، وحرية في استهلاك خطاب الدولة عن «التنوير» و«محاربة الانحطاط الديني»، لكن دون أي حرية في نقد الحاكم أو الاعتراض على سياسات بيع الأرض وتهجير السكان ونهب الموارد.
«الانحطاط الديني» وشيطنة التراث
حين يتحدث السيسي عن «التخلف الديني» و«الانحطاط الإسلامي والغث الذي بدأ من 1400 سنة»، فهو لا يطلق وصفًا عابرًا على انحرافات معاصرة، بل يربط الأزمة بالقرون الأولى للإسلام نفسها، أي بالبنية العميقة للتراث الذي تشكلت عليه عقول العلماء والأزهر وجمهور الأمة. بهذا الخطاب، يصبح المطلوب ليس إصلاح انحرافات حقيقية في الفهم، بل إعادة صياغة كاملة لمفهوم الدين ذاته، بحيث يُختزل في علاقة فردية مبهمة مع «ربنا»، منفصلة عن الشريعة والأحكام ومعاني الحلال والحرام التي يصفها شخص الرئيس بأنها جزء من «الغث» و«الانحطاط».
هذا التصوير الشامل للتراث كعبء، مع تحميل «الانحطاط الديني» مسؤولية أزمات المجتمع، يخدم هدفًا سياسيًا مباشرًا: تبرئة الأنظمة العسكرية والديكتاتورية من عقود من الفساد والقمع، وإلقاء التهمة على الدين نفسه. يصبح العدو ليس الاستبداد ولا التبعية للخارج، بل «الفهم الديني الموروث» الذي يريد السيسي أن يحتكره ويُعيد صياغته عبر الأئمة المروَّضين في الأكاديمية العسكرية.
الأثر على مستقبل الدين في مصر
إذا استمر هذا المسار، سنجد أنفسنا أمام مؤسسة دينية رسمية منزوع منها دور «حراسة العقيدة»، محصورة في ترديد خطاب سياسي عن «الحرية» و«التنوير» تحت سقف النظام، بينما تُدفع الأصوات المستقلة والراسخة علميًا إلى الهامش أو السجون أو المنافي. في هذه الحالة، لن يتضرر «تيار بعينه» بل يتضرر الإيمان نفسه؛ إذ سيفقد الناس ثقتهم في منابر تتلو النص القرآني صباحًا، ثم تصفق لمن يهين التراث الإسلامي عصرًا، ويطلب منها أن تكون حارسة لـ«حرية» لم يَرَ لها المواطن المصري أثرًا في حياته اليومية.
تحليل كلام السيسي مع علماء الأزهر إذًا يكشف أنه لا يسعى لتحرير العلماء من سطوة النص، بل يسعى لتحرير السلطة من رقابة العلماء والنص معًا، عبر إسقاط صفة «حراس العقيدة» عن أهل العلم، ومنحها لحاكم عسكري يريد أن يحتكر تعريف الإيمان والحرية والدين، في بلد لا يملك أهله حتى حرية التنفس خارج هوامش الخوف.

