في حلقة جديدة من مسلسل "محو الذاكرة" الذي يمارسه نظام الانقلاب بدم بارد، عاد بلدوزر الهدم ليضرب من جديد في عمق القاهرة التاريخية، مستهدفاً هذه المرة أحد أهم المعالم الروحية والتراثية: منطقة السيدة نفيسة. تحت ستار "التطوير" وشعارات "الجمهورية الجديدة" الزائفة، تواصل الجرافات العسكرية دهس تراث يمتد لقرون، غير عابئة بقدسية المكان أو غضب المصريين، لترسخ حقيقة واحدة: لا شيء يقف أمام "بلدوزر السيسي"، لا حرمة لميت ولا قيمة لتاريخ.

 

"ممر السيدة نفيسة".. الضحية الجديدة

 

أثار الحديث عن هدم "ممر السيدة نفيسة"، المخصص لمدخل السيدات، موجة غضب عارمة بين محبي التراث وآل البيت، ليعيد للأذهان مشاهد الخراب التي طالت مناطق تاريخية بأكملها. ورغم نفي محافظة القاهرة - كعادتها - واختبائها خلف مصطلحات براقة مثل "إحياء الطابع التاريخي" و"تحسين المظهر الحضاري"، إلا أن الواقع على الأرض يكشف عن "مذبحة معمارية" مكتملة الأركان. فما تسميه الحكومة "تطويراً شاملاً" ليس سوى عملية "تجريف" ممنهجة، تُزيل فيها المعالم الأصيلة لتستبدلها بكتل خرسانية وطرق سريعة تخدم بيزنس المقاولات العسكري، دون أدنى اعتبار للنسيج العمراني الفريد للمنطقة.

 

محافظ القاهرة، إبراهيم صابر، خرج ليردد نفس الأسطوانة المشروخة: "الهدف هو رفع كفاءة البنية التحتية بما يليق بمكانة السيدة نفيسة". لكن المصريين يتساءلون: هل يليق بمكانة "نفيسة العلم" أن تُحاصر جرافات الجيش ضريحها، وأن يُزال ما حوله من شواهد تاريخية بحجة "توفير بدائل مرورية"؟ وهل أصبح "التطوير" مرادفاً لـ "المحو" في قاموس العسكر؟

 

الهيئة الهندسية.. "مقاول الهدم" فوق القانون

 

منذ أغسطس الماضي، تسارعت وتيرة الهدم في منطقتي مدافن السيدة نفيسة والإمام الشافعي، لتمهيد الطريق أمام "محور صلاح سالم الجديد". وكشف عضو في مجلس إدارة الجهاز القومي للتنسيق الحضاري لمنصة "صحيح مصر" عن الحقيقة المرة: الجهة المسؤولة عن هذا العبث هي "الهيئة الهندسية للقوات المسلحة". هذه الهيئة، التي باتت تتصرف كـ"مقاول هدم" فوق القانون والمحاسبة، بدأت مذبحتها منذ 4 سنوات في مقابر الإمام الشافعي، قبل أن يمتد نهمها للخرسانة إلى السيدة نفيسة.

 

المسؤول أكد أن الهيئة "تتراجع مؤقتاً كلما اندلع غضب شعبي، ثم تعود لاستئناف الهدم بعد هدوء العاصفة"، في تكتيك خبيث لامتصاص الغضب وتمرير المخطط. وأضاف بمرارة: "الوضع الحالي لم يعد مجدياً فيه أي مخاطبات.. الغضب يتكرر والهدم يستمر ولم تلتزم الهيئة بأي تعهدات". هذا التصريح يكشف بوضوح أن القرارات لا تُصنع في مكاتب الخبراء أو الأثريين، بل تمليها "الأوامر العسكرية" التي لا ترى في التراث سوى عقبة أمام "السبوبة".

 

"تطوير" أم "إبادة"؟.. سجل أسود من الانتهاكات

 

ما يحدث في السيدة نفيسة ليس حادثاً معزولاً، بل هو حلقة في سلسلة ممتدة من الجرائم بحق التراث. تحت مزاعم التطوير، أزالت المحافظة سابقاً عدداً كبيراً من المقابر التاريخية في منطقة الإمام الشافعي، ضاربة عرض الحائط بقانون حماية الآثار رقم 117 لسنة 1983 الذي يُجرّم هدم أي أثر.

 

وفي عام 2021، شهد العالم فضيحة هدم جزء من "جبانة المماليك"، التي تضم مقابر وآثاراً إسلامية تعود لنحو 5 قرون، وبعضها مصنف تراثاً عالمياً لدى اليونسكو. كل هذا الدمار تم فقط من أجل توسعة طرق وإنشاء "جسر الفردوس" لربط القاهرة بالعاصمة الإدارية الجديدة؛ عاصمة "الأغنياء" التي يبنيها السيسي في الصحراء، ولو كان الثمن هو سحق تاريخ "قاهرة المعز" تحت عجلات البلدوزر.

 

نظام يكره التاريخ

 

إن إصرار حكومة الانقلاب على المضي قدماً في مخططات الهدم، رغم كل الاعتراضات والنداءات، يؤكد أننا أمام نظام لا يجهل التاريخ فحسب، بل يكرهه ويعاديه. "بلدوزر السيسي" لا يهدف فقط لإنشاء طرق وكباري، بل يهدف لطمس الهوية المصرية، وتحويل القاهرة من مدينة تراثية عريقة إلى مجرد "غابة خرسانية" ومسارات مرورية تخدم مصالح فئة ضيقة، بينما تضيع ذاكرة الأمة وتراثها تحت الأنقاض. ما يجري في السيدة نفيسة والإمام الشافعي هو "جريمة حضارية" لن يغفرها التاريخ، ولن تسقط بالتقادم.