تطل "أزمة الدواء" برأسها من جديد لتضرب القطاع الصحي في مصر، مع اختفاء عشرات الأصناف الحيوية من الصيدليات منذ ما يقرب من شهر، في مشهد يعيد للأذهان سيناريوهات "الكارثة الصحية" التي باتت تتكرر بشكل دوري. هذا الغياب المفاجئ لأدوية أمراض القلب، الأورام، السكر، وحتى الأدوية النفسية، ليس مجرد "نقص عابر" كما تحاول الحكومة تصويره، بل هو إعلان صريح عن فشل المنظومة الصحية والاقتصادية التي تُدار بها البلاد، حيث تحولت صحة المواطن إلى "سلعة" تخضع لمساومات الشركات واشتراطاتها الربحية، في ظل عجز حكومي فاضح عن ضبط السوق أو توفير البدائل.

 

"الكوتة" واختفاء البدائل: إدارة الأزمة بمنطق "التسول"

 

ما كشفه صيادلة عن لجوء شركات التوزيع لنظام "الكوتة" في صرف الأدوية، هو اعتراف ضمني بانهيار منظومة التوريد الطبيعي. هذا النظام الذي يحول الصيدلي إلى "متسول" للحصول على علب دواء معدودة، يعكس حجم الكارثة التي يعيشها القطاع. والأخطر من ذلك هو ما أكده الصيدلي محمد بدوي عن "اختفاء الأدوية وبدائلها في آن واحد"، مما ينسف الدعاية الحكومية التي طالما تذرعت بوجود "بدائل محلية".

 

عندما يجد مريض القلب أو السرطان نفسه عاجزًا عن إيجاد دوائه أو بديله، فإننا لسنا أمام "أزمة استيراد" فحسب، بل أمام "جريمة قتل بالامتناع" تشارك فيها أطراف عدة، بدءًا من الشركات التي تحتكر الدواء لتعطيش السوق وفرض أسعار جديدة، وصولاً إلى الجهات الرقابية التي تقف موقف المتفرج أمام هذه الممارسات الاحتكارية.

 

"الابتزاز" بالأسعار: الحكومة تخضع والشركات تملي شروطها

 

تصريحات عضو غرفة صناعة الأدوية، محمد غنيم، بأن الشركات "تتوقف عن إنتاج المستحضرات التي لا تحقق أرباحًا"، هي إدانة واضحة لمنطق "البيزنس" الذي يحكم سوق الدواء في مصر. فالشركات، التي تتعامل مع الدواء كأي سلعة استهلاكية، لا تتردد في وقف خطوط الإنتاج وتهديد حياة الملايين كورقة ضغط لفرض زيادات جديدة في الأسعار.

 

ورغم أن الحكومة رضخت سابقًا ورفعت أسعار مئات المستحضرات بحجة "تحرير سعر الصرف"، إلا أن الشركات عادت لتمارس نفس اللعبة، مطالبة بزيادات جديدة أو التهديد بوقف الإنتاج. هذا الخضوع الحكومي المستمر لابتزاز "لوبي الدواء" يكشف عن غياب أي رؤية استراتيجية لتأمين الأمن الدوائي، حيث تكتفي الدولة بدور "الوسيط" الذي يمرر الزيادات من جيوب المواطنين لجيوب المستثمرين، دون أن تضمن حتى توفر السلعة.

 

تصريحات متضاربة وتوطين "وهمي"

 

في الوقت الذي يؤكد فيه رئيس هيئة الدواء المصرية، علي الغمراوي، أنه "لن تكون هناك زيادة في الأسعار"، تخرج الشركات لتؤكد أنها قدمت طلبات رسمية لرفع الأسعار بنسبة تصل إلى 30%، محذرة من نقص وشيك. هذا التخبط والتضارب في التصريحات يعكس حالة "الانفصال عن الواقع" التي تعيشها الحكومة، التي تطلق الوعود الوردية في المؤتمرات، بينما يواجه المواطن جحيم البحث عن علبة دواء في الصيدليات.

 

أما الحديث عن "توطين صناعة الدواء" الذي تروج له الحكومة كإنجاز، فيصطدم بحقيقة أن 99% من المواد الخام مستوردة، مما يجعل الصناعة المحلية رهينة لسعر الدولار وتقلبات السوق العالمي. فما فائدة "التوطين" إذا كان المصنع المحلي يتوقف عن الإنتاج بمجرد ارتفاع سعر المادة الخام أو تأخر الاعتمادات المستندية؟ إن الحديث عن الاكتفاء الذاتي في ظل هذه التبعية الكاملة للخارج هو مجرد "بيع للوهم" لا يغني ولا يسمن من جوع.

 

المواطن يدفع الثمن مرتين

 

في المحصلة، يدفع المواطن المصري الثمن مرتين: مرة عندما يضطر لشراء الدواء بأسعار مضاعفة بعد كل "موجة نقص"، ومرة أخرى بصحته وحياته عندما يعجز عن توفيره. الأزمة الحالية ليست سوى عرض لمرض أعمق، وهو غياب السيادة الوطنية على القرارات الاقتصادية الحيوية، وتسليم رقبة المواطن لآليات سوق متوحشة لا تعرف الرحمة. إن استمرار إدارة ملف الدواء بهذه العقلية "التجارية" ينذر بكارثة صحية واجتماعية وشيكة، لن تجدي معها المسكنات الحكومية أو التصريحات الإعلامية نفعًا.