في حلقة جديدة من مسلسل إهدار المال العام الذي بات السمة الأبرز لما يسمى بـ"الجمهورية الجديدة"، استيقظ الرأي العام المصري على صدمة اعترافات رسمية نادرة ومذلة من داخل أروقة وزارة الزراعة ولجنة الزراعة بمجلس النواب، تقر بفشل "المشروع القومي للبتلو".

 

هذا المشروع الذي صدّعت سلطة الانقلاب رؤوس المصريين بالترويج له كطوق نجاة للأمن الغذائي، انتهى به المطاف كغيره من "الفناكيش" الرئاسية: 7 مليارات جنيه تم إنفاقها دون أثر، بينما اتسعت فجوة العجز في اللحوم الحمراء لتصل إلى 35%، تاركة المواطن فريسة لجنون الأسعار والجوع.

 

اعترافات متأخرة: عندما تعجز "البروباغندا" عن ستر العورة

 

لم تأتِ هذه الاعترافات الحكومية صحوة للضمير، بل جاءت تحت وطأة الأرقام الكارثية التي لم يعد ممكناً إخفاؤها. فقد كشفت مناقشات رسمية حديثة أن المليارات التي ضُخت في المشروع لم تحقق هدفها الأساسي المتمثل في خفض الأسعار أو تحقيق الاكتفاء الذاتي. وبدلاً من أن تساهم الأموال في دعم صغار المربين، ذهبت كالعادة لجيوب "حيتان السوق" والمستوردين الكبار المقربين من دوائر السلطة، في عملية تدوير للفساد مقننة بغطاء "دعم الإنتاج الحيواني".

 

الاعتراف بفشل المشروع يمثل نسفاً كاملاً لسردية النظام حول "الإنجازات الزراعية"، ويؤكد أن التخطيط في عهد السيسي لا يخضع لدراسات جدوى، بل لـ"الشو الإعلامي" والرغبة في استنزاف الخزينة العامة في مشروعات وهمية تفتقر لأبسط مقومات الاستدامة.

 

أين ذهبت الـ 7 مليارات؟.. "سبوبة" القروض وفساد الأعلاف

 

السؤال الذي يطرح نفسه بقوة الآن: أين تبخرت الـ 7 مليارات جنيه؟ تشير التقارير وتصريحات الخبراء (التي تم تجاهلها لسنوات) إلى أن آلية توزيع القروض شابها فساد إداري ومحسوبية فجة. فبدلاً من توفير عجول مستوردة وسلالات عالية الإنتاجية لصغار الفلاحين، تحول المشروع إلى "بوابة خلفية" لتربح كبار التجار الذين حصلوا على القروض الميسرة واستخدموها في استيراد لحوم مجمدة أو المضاربة في أسواق الأعلاف، مما أدى إلى تفاقم الأزمة بدلاً من حلها.

 

علاوة على ذلك، تجاهلت الحكومة عمداً أزمة ارتفاع أسعار الأعلاف الناتجة عن سياستها الاقتصادية الفاشلة وانهيار العملة، مما أجبر صغار المربين (الذين صدقوا وعود النظام) على الخروج من السوق وبيع مواشيهم بخسارة، ليصب ذلك مجدداً في مصلحة الاحتكارات الكبرى التي تسيطر عليها جهات سيادية وشبكات مصالح مرتبطة بالنظام.

 

فجوة الـ 35%.. المواطن يدفع فاتورة الفشل من "لحمه الحي"

 

النتيجة المباشرة لهذا الفشل الذريع لم تكن مجرد رقم في موازنة الدولة، بل كارثة معيشية تضرب البيوت المصرية. اتساع الفجوة الاستيرادية في اللحوم إلى 35% يعني مزيداً من الاعتماد على الدولار الشحيح أصلاً لاستيراد الغذاء، ومزيداً من الارتفاع الجنوني في أسعار اللحوم التي تحولت في عهد الانقلاب من سلعة غذائية إلى "حلم بعيد المنال" للأغلبية الساحقة.

 

النظام الذي وعد المصريين بـ"الرخاء" و"البتلو الرخيص"، أوصلهم اليوم إلى مرحلة العجز عن شراء "هياكل الفراخ". وبدلاً من محاسبة المسؤولين عن إهدار هذه المليارات، تستمر الحكومة في سياسة الهروب للأمام، محاولة تغطية الفشل عبر استيراد اللحوم المجمدة أو البحث عن شماعات خارجية، متجاهلة أن السبب الحقيقي هو السياسات التي دمرت الثروة الحيوانية لصالح مافيا الاستيراد.

 

جريمة بلا عقاب في دولة "اللاديمقراطية"

 

إن ما حدث في "مشروع البتلو" ليس مجرد فشل إداري، بل هو جريمة مكتملة الأركان في حق الشعب المصري وأمواله. اعتراف المسؤولين اليوم لا يعفيهم من المساءلة، بل يجب أن يكون وثيقة إدانة تستوجب المحاكمة.

 

لكن في ظل غياب البرلمان الحقيقي وتأميم القضاء، يظل الفساد محمياً، ويظل المواطن هو الضحية الوحيدة الذي يدفع ثمن بقاء هذا النظام، جوعاً وفقراً وقهراً. إن الـ 7 مليارات التي ضاعت كانت كفيلة بانتشال آلاف الأسر من الفقر لو أُديرت بنزاهة، لكن النزاهة عملة لا مكان لها في "جمهورية الجباية والفساد".