في مشهد إعلامي نادراً ما يخرج عن النص المرسوم بدقة، تحولت حلقة برنامج "على مسؤوليتي" للإعلامي المقرب من الأجهزة الأمنية أحمد موسى، إلى ساحة مواجهة غير متكافئة كشفت عورة "الحوار الوطني" وزيف ادعاءات الانفتاح السياسي.
التصريحات النارية التي أطلقها المفكر السياسي الدكتور حسام البدراوي، والتي قوبلت بردود فعل مرتبكة وتبريرية من موسى، لم تكن مجرد نقد عابر، بل بدت كإعلان وفاة رسمي للحياة السياسية في مصر على لسان أحد أبرز عقلاء الدولة العميقة، مما أثار تفاعلاً واسعاً على منصات التواصل الاجتماعي واعتبره مراقبون "شهادة إدانة من الداخل".
نعش "الحوار الوطني": تجميل الواجهة بلا مضمون
لم يتردد البدراوي في نسف الرواية الرسمية حول "الجمهورية الجديدة"، مؤكداً في تصريحاته أن الحوار الوطني الذي روّج له النظام طويلاً لم يكن سوى "ظاهرة صوتية". وبنبرة حاسمة، كشف البدراوي أن "كل ما طُرح في الحوار الوطني لم يؤخذ به"، وهو ما دفعه للامتناع عن المشاركة لاحقاً، في إشارة واضحة إلى أن النظام يستخدم هذه المنصات كديكور سياسي لامتصاص الغضب الشعبي والخارجي دون أي نية حقيقية للإصلاح.
هذا الاعتراف الصريح من شخصية كانت مسؤولة عن رؤية "مصر 2030"، يضع النظام في مأزق حقيقي، إذ يُسقط ورقة التوت الأخيرة عن السلطة التي تحاول تسويق صورة "الدولة الديمقراطية". رد فعل أحمد موسى، الذي حاول مقاطعة الضيف وتشتيت الانتباه عبر الحديث عن "المؤامرات الخارجية"، بدا هزيلاً أمام ثقل الحقائق التي سردها البدراوي، مما يعكس عجز الآلة الإعلامية للنظام عن مواجهة الحجة بالحجة عند غياب التعليمات الأمنية المسبقة.
الدولة "المخطوفة": هيمنة الأمن على السياسة
أخطر ما جاء في حديث البدراوي هو تشخيصه الدقيق لخلل التوازن بين السلطات، حيث أكد أن "مؤسسات الدولة أصبحت تابعة للسلطة التنفيذية"، وأن البرلمان الذي يفترض به مراقبة الحكومة بات مجرد أداة لتمرير القرارات. هذه الكلمات تضرب في صميم الشرعية الدستورية للنظام الحالي، وتؤكد ما تذهب إليه المعارضة من أن مصر تعيش حالة "تأميم كامل" للمجال العام لصالح المؤسسة الأمنية.
وفي مواجهة منطق البدراوي القائل بأن "الحرية هي أساس التنمية"، ظهر أحمد موسى متمترساً خلف "فزاعة الفوضى"، مكرراً سردية النظام المستهلكة بأن الانفتاح السياسي هو ما أدى لسيناريو 2011. هذا التباين يوضح الصراع الجوهري داخل أروقة الحكم: بين تيار إصلاحي يرى أن الاستبداد يقود للانفجار، وتيار أمني مهيمن يرى في أي صوت معارض تهديداً وجودياً للنظام، وهو التيار الذي يمثله موسى بامتياز.
انتخابات بلا ناخبين: أزمة شرعية متفاقمة
لم تخلُ المواجهة من مكاشفة مؤلمة حول واقع الانتخابات في مصر. ففي حين تتغنى وسائل إعلام السلطة بـ"الاستحقاقات الدستورية"، أشار البدراوي بوضوح إلى "عزوف الناس عن الانتخابات لغياب الثقة"، مؤكداً أن المواطن المصري بات يدرك أن صوته بلا قيمة في ظل هندسة النتائج مسبقاً. والأكثر جرأة كان إعلانه الشخصي بأنه "لن ينتخب الرئيس لفترة رابعة"، في كسر واضح لتابوهات الولاء المطلق التي يفرضها النظام.
ردود فعل أحمد موسى المتوترة، ومحاولاته المستميتة للتأكيد على أن "الدولة تسمع الرأي الآخر"، بدت وكأنها محاولة يائسة لإنقاذ ماء الوجه أمام جمهور لم يعد يصدق هذه المسرحيات. فظهور البدراوي -رغم انتمائه لمعسكر الدولة- وتوجيهه لهذه الانتقادات اللاذعة عبر شاشة محسوبة على المخابرات، يُقرأ على أنه مؤشر لتململ قطاعات واسعة داخل مؤسسات الدولة نفسها من سياسات "الرجل الواحد" وإدارة البلاد بالعقلية الأمنية الصرفة.
صرخة في وادٍ غير ذي زرع
إن ما حدث في استوديو "على مسؤوليتي" يتجاوز كونه مشادة إعلامية؛ إنه تعبير عن أزمة بنيوية يعيشها النظام المصري. فحين يضطر "رجال الدولة" لانتقاد السلطة علناً بهذه الحدة، فهذا يعني أن قنوات الاتصال الداخلية قد انسدت تماماً، وأن النظام بات يعيش في عزلة لا يسمع فيها إلا صدى صوته. ورغم محاولات أحمد موسى احتواء الموقف، فإن الرسالة قد وصلت: مصر في خطر ليس بسبب "المؤامرات"، بل بسبب غياب السياسة، وتغول الأمن، واحتكار الحقيقة.

