خلاصة السجال الدائر حول التشكيك في نزاهة العملية الانتخابية في مصر، أن قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي أراد أن يستعيد جزءًا كبيرًا من شعبيته بين أنصاره التي تآكلت بشدة خلال السنوات الأخيرة، بفعل حالة التردي الاقتصادي، وموجات الغلاء المتلاحقة التي أرهقت جيوب المصريين بشدة، وجعلت الكثير من الموالين للنظام الانقلابي يتراجعون عن دعمه الصريح، بعدما اكتووا بنار الغلاء والمعيشة.

 

فالسيسي يعلم أكثر من غيره، أنه في هكذا أجواء لن تكون هناك انتخابات نزيهة يتم اختيار المرشحين لها داخل الأجهزة الأمنية، بناءً على ولاءاتهم، ودرجة قربهم من السلطة، وثرائهم المادي، وتأييدهم على الدوام للسياسات الكارثية التي ينتهجها النظام في مختلف الملفات والقطاعات، دونما إظهار أية معارضة، أو التعقيب عليها من قريب أو بعيد، حتى يكون برلمانًا مستأنسًا، مأمون الجانب، لا صوت له أو رأي، فالكل في حالة سبات بأمر النظام.

 

محاولة إنقاذ السيسي وشعبيته

 

من السذاجة النظر إلى ما يجري حاليًا في مصر على أنه يكشف في أعماقه عن صراع أجهزة، أو محاولات جريئة من داخل النظام لإصلاح نفسه بنفسه، أو إعطاء انطباع مغاير عن الصورة الذهنية التي ارتسمت في أذهان المصريين عن النظام الجاثم على أنفاسهم منذ أكثر من 12 عامًا، بقدر ما هو محاولة لإنقاذ السيسي وشعبيته التي تدهورت جراء امتهانه المصريين وإهدر كرامتهم وإرادتهم غير عابئ بما يواجهونه من أزمات وتحديات يومية فاقمت من أوضاعهم المعيشية المتردية.
   

لقد أراد السيسي برسالته التي توجه بها إلى الهيئة الوطنية للانتخابات يوم الإثنين الماضي أن يلملم بقايا شعبيته، وهو يطلب منها التدقيق بشأن وقوع "أحداث" في بعض الدوائر الانتخابية التي يتنافس فيها المرشحون الفرديون في المرحلة الأولى من الانتخابات التي جرت في 14 محافظة، والذي اقترح فيه على الهيئة العليا للانتخابات فحص الطعون بشأنها، وإلغاء المرحلة الأولى بصورة كلية أو جزئية "عند تعذر الوصول إلى إرادة الناخبين الحقيقية.

 

على الرغم من أن الرسالة بدت في فحواها مفاجئة للكثير من المراقبين، إلا أن المتابع الجيد لشخصية السيسي يدرك أن ما فعله يتسق مع طبيعته الوصولية في الحقيقة، فهو لا يفقه في السياسة بحكم أنه لم يشتغل بها إلا في مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير 2011، لكنه يدرك جيدًا ألاعيب الساسة التي تجعله لا يخجل من التضحية بأقرب حلفائه والتشكيك في نزاهتهم سعيًا إلى تحقيق مكاسب شخصية، وهذه من طبائع الحاكم في الأنظمة الديكتاتورية، الذي يرى نفسه لا يخطئ أبدًا.

 

التضحية بسمعة القضاء 

 

ضحى السيسي بمصداقية ونزاهة الهيئة الوطنية للانتخابات أمام الرأي العام، وجعل القضاء يتصارعون علنًا للمرة الأولى، حتى يظهر في النهاية وعلى غير الحقيقة، أنه حامي حمى الديمقراطية، بينما هو من قاد بكل تهور وحماقة تجريف السياسة في مصر بصلة، وهو الذي أمر بتشكيل أحزاب ملاكي، لخدمة نزعاته الفردية، وإرضاء طموحاته الشخصية، لذا من الطبيغي أن ينتهي الحال إلى ما انتهى عليه في انتخابات مجلس النواب 2025.

 

كان يمكن للسيسي لو أراد أن يصحح ما حصل من أخطاء في الجولة الأولى من الانتخابات أن يشرع في إجراء اتصالات مع الهيئة الوطنية للانتخابات، لكنه أراد أن يضعها في حرج بالغ أمام الرأي العام، وحتى يدفع بالكرة بعيدًا عنه، وبعيدًا عن اختيارات أجهزته التي شابها الكثير من التساؤلات، وحامت حولها الشبهات في ظل ما يتردد عن شراء المقاعد مقابل ما بين 50 إلى 70 مليون جنيه للمقعد الواحد.

 

فالعوار الحاصل هو المسؤول عنه منذ البداية، وما حصل من مخالفات في الانتخابات تزكم الأنوف هو نتاج سياساته المتواصلة منذ أكثر من 12 عامًا، التي تعزز من حكم "الفرد الواحد"، الذي لا يؤمن بالتعددية تمامًا، ولا يحترم الرأي الآخر أبدًا، وينظر إلى نفسه دومًا على أنه لا ينطق عن الهوى.