في بلد تزعم حكومته ليل نهار أن "القضاء مستقل وشامخ"، فجّرت نيابة أمن الدولة العليا مفاجأة مدوّية بإحالة قاضٍ بارز إلى المحاكمة الجنائية، بعد ثبوت تورطه في شبكة فساد ورشاوى مالية بملايين الجنيهات، مقابل تخفيف أو تبرئة متهمين في قضايا قتل واغتصاب واتجار بالمخدرات.
الفضيحة لا تكشف فقط عن سقوط أخلاقي فردي، بل تعري نظامًا قضائيًا مهترئًا، غارقًا في التبعية السياسية، ومليئًا بأمثال هذا القاضي الذي لم يكن استثناءً، بل مجرد حلقة تم كشفها بالصدفة في منظومة فساد أشمل، طالما استخدمت القضاء كأداة لقمع الخصوم، وتبييض وجوه الموالين.
قاضٍ على منصة الجنايات.. مرتشٍ من قتلة ومغتصبين
المستشار ياسر محمد عبده الوصيف، رئيس الدائرة الثانية عشرة بمحكمة جنايات دمنهور، أُحيل رسميًا إلى المحاكمة الجنائية بتهم تلقي رشاوى تجاوزت المليون جنيه من متهمين في قضايا من العيار الثقيل:
قتل عمد مع سبق الإصرار
اتجار بالمخدرات
خطف بالإكراه واغتصاب
استيلاء على أموال عامة
القاضي الذي منح أحكام البراءة أو التخفيف مقابل المال، لم يُجبر، ولم يُهدد، بل اختار أن يحوّل ميزان العدالة إلى دفتر شيكات.
الرشوة كانت واضحة ومباشرة: نصف مليون هنا لتخفيف حكم بالإعدام، 50 ألفًا هناك لوقف تنفيذ عقوبة، و40 ألفًا أخرى مقابل الإفراج عن لص للمال العام.
منظومة وساطة فاسدة داخل أروقة القضاء
لم يكن القاضي وحده. التحقيقات أظهرت شبكة كاملة من السماسرة والوسطاء، ضمّت محامين، مقاولين، موظفة بمحكمة بورسعيد، وحتى أمين شرطة.
كلهم شاركوا في تسيير الرشاوى، والتفاوض على الأحكام، وتسهيل التواصل مع أطراف القضايا، وكأننا أمام "كارتل عدالة" يبيع الأحكام لمن يدفع أكثر.
أسوأ ما في هذه الوقائع أنها حدثت داخل مؤسسات يُفترض أنها تطبق القانون، وتحمي المجتمع، وتفصل بين المظلوم والظالم.
لكن الحقيقة أن تلك المؤسسات كانت تُستخدم كـ سوق سوداء للعدالة، يُباع فيها الإفراج عن القتلة والمغتصبين بينما يُسجن أساتذة الجامعة والمثقفون بسبب منشورات على فيسبوك!
قضاء مطارد للشرفاء.. متساهل مع الفاسدين
في المفارقة الصادمة، لم نسمع عن قاضٍ يُحاسَب لتوقيعه أحكامًا بالمؤبد أو الإعدام بحق الأبرياء، أو لتمديده الحبس الاحتياطي لسنوات دون تحقيق، كما حدث مع المئات من الصحفيين والباحثين والطلاب، بل نكتشف أن قضاة يُمنحون الغطاء الكامل لإدارة عدالة انتقائية موجهة سياسيًا.
الناشطون والمعارضون في السجون بتهم "إرهاب"، بينما يُخفف الحكم على مغتصب مقابل 20 ألف جنيه!
هذا ليس مجرد فساد... بل تحطيم للثقة الكاملة في المؤسسة القضائية برمّتها.
أين رقابة الدولة؟ ولماذا لا نرى المحاسبة إلا حين يُكشَف المستور؟
الملف الأخطر هو غياب الرقابة الحقيقية.
كيف لقاضٍ بهذا النفوذ أن يتحرك لعقود داخل المحكمة، يصدر أحكامًا بمزاجه، ويُفاوض على العقوبات، دون أن يلفت انتباه هيئة التفتيش القضائي أو الجهات الرقابية؟
الجواب ببساطة: لأن الرقابة في مصر موجهة ضد من يكتب رأيًا، لا ضد من يقتل القانون.
فلو لم يرفض أحد الوسطاء تمرير رشوة متعلقة بحكم إعدام، لما عرف أحدٌ شيئًا عن هذه القضية. وهذا يؤكد أن ما خفي أعظم، وأن العشرات من القضايا "المباعة" قد طُمست معالمها تحت عباءة "القضاء الشامخ".
لا عدالة في نظام فاسد.. فقط أحكام للبيع
قضية المستشار المرتشي ليست حدثًا منفصلًا، بل مرآة قبيحة لنظام عدالة منهار بالكامل.
ففي دولةٍ تُباع فيها أحكام البراءة مقابل "كاش"، ويُسجن فيها الأبرياء لأنهم كتبوا رأيًا مخالفًا، لا يمكن الحديث عن قضاء، بل عن منظومة مقايضة فاسدة تديرها سلطة فقدت كل ما تبقى من شرعية.
في مصر اليوم، القاضي لا يُحاسَب إلا إن سقط في يد الكاميرا أو خالف التعليمات، أما العدالة؟ فهي على الهامش، تُنتهك كل يوم باسم القانون... ولا عزاء للوطن.

