في استمرارٍ صارخ لمسلسل الانتقام السلطوي في مصر، أصدرت محكمة الجنايات بسلطة الانقلاب العسكري (الدائرة الثانية مستأنف بدر)، يوم الاثنين الماضي، أحكاماً جائرة بحق تسعة معتقلين سياسيين، بينهم حكم بالمؤبد، وأحكام بالسجن المشدد 15 عامًا لثمانية آخرين، في القضية المعروفة إعلاميًا بـ"اللجان الإعلامية لجماعة الإخوان المسلمين" (رقم 339 لسنة 2022 أمن دولة عليا).

 

أحكام سياسية لا قضائية.. و"العدالة" تُغتال على منصة بدر
الأحكام، التي وُصفت من قبل حقوقيين ومحامين بأنها "ذروة القمع القضائي"، تأتي ضمن مسار طويل من استخدام القضاء كأداة لتكميم الأفواه وملاحقة كل رأي لا يتماهى مع رواية النظام الحاكم، في بلدٍ بات فيه الحُكم بالإعدام أو المؤبد سلاحًا سياسيًا يُشهر ضد الإعلاميين والمعارضين.

 

تهم ملفّقة و"طائرة تصوير".. هذه هي العدالة في جمهورية القهر
النيابة العامة لنيابة أمن الدولة العليا، الذراع القضائية الأكثر فتكًا بخصوم النظام، اتهمت المعتقلين بتهم فضفاضة ومكررة، من بينها "الانضمام لجماعة أُسست على خلاف أحكام القانون"، و"تولي قيادة فيها"، إلى جانب "تمويل الإرهاب" و"حيازة طائرة تصوير دون ترخيص".

اللافت في هذا الملف، كما في عشرات غيره، أن جميع هذه الاتهامات اعتمدت على تحريات أمنية مكتبية، دون تقديم أي أدلة مادية أو قرائن تُثبت أي نشاط فعلي يهدد الأمن القومي، حسب ما أكده عضو هيئة الدفاع عن المعتقلين، الذي أشار إلى أن معظمهم صحفيون وإعلاميون لا تتعدى أنشطتهم نقل الأخبار والتقارير من وجهة نظر مخالفة لرواية الدولة.

 

قضاء التعليمات.. لا فرصة للدفاع ولا مكان للعدالة
قال أحد المحامين المدافعين عن المتهمين في تصريحات صحفية إن "القضية سياسية بحتة، وخالية من أي دليل ملموس"، مؤكدًا أن هيئة الدفاع لم تُمنح الفرصة الكافية لتقديم دفوعها، ولم يُسمح لها بالاطلاع الكامل على مستندات القضية، في خرق سافر لأبسط مبادئ المحاكمة العادلة.
وأضاف أن الاتهامات اعتمدت على خلفيات أيديولوجية ومواقف سياسية للمتهمين، وليس على أفعال جنائية، مشيرًا إلى أن العديد منهم مارسوا نشاطًا إعلاميًا وصحفيًا فقط، وهو ما يُعدّ في أي دولة تحترم حقوق الإنسان جزءًا من الحريات الأساسية وليس تهمة.

 

المحاكمات الجماعية: أسلوب الترهيب السلطوي
هذه المحاكمة ليست حالة استثنائية، بل حلقة من حلقات "القضاء المسيس" الذي تفنّن خلال السنوات الماضية في إصدار آلاف الأحكام الجماعية بحق المعارضين، من دون تمييز بين ناشط أو صحفي أو حتى مواطن عادي.

تُستخدم المحاكم كأداة لترويع المجتمع، ورسالة إلى كل من تسوّل له نفسه انتقاد السلطة، بأن مصيره قد يكون زنزانة انفرادية في بدر، أو حكمًا جائرًا بالسجن المؤبد، أو حتى الإعدام، وكل ذلك تحت لافتة "مكافحة الإرهاب" التي أفرغها النظام من مضمونها، وحوّلها إلى ستار للقمع.

 

جمهورية الخوف: الإعلام عدو الدولة الجديدة
منذ انقلاب 2013، بات الإعلام الحر هدفًا ثابتًا للنظام، حيث شُنت حملات ملاحقة واعتقال وإخفاء قسري للصحفيين والمدونين والمراسلين، لمجرد نقلهم روايات مخالفة للسردية الرسمية.

ويُظهر ملف "اللجان الإعلامية" كيف بات امتلاك كاميرا، أو طائرة تصوير، أو حتى مشاركة خبر على وسائل التواصل، سببًا كافيًا لتقضي 15 عامًا في السجن.
هذه السياسة ممنهجة، تستهدف تجفيف منابع المعلومات المستقلة، وفرض رواية واحدة تُملى من داخل القصور الرئاسية وغرف المخابرات.

 

العالم يصمت.. والسلطة تتمادى
رغم الإدانات الحقوقية المتكررة، محليًا ودوليًا، لا تزال الدول الغربية تواصل دعمها للنظام المصري بالمال والسلاح والشرعية السياسية، متجاهلة انتهاكاته الجسيمة. بينما يدفع المعتقلون السياسيون، وذووهم، ثمن هذا الصمت الدولي الفاضح.

إن ما جرى في هذه القضية يؤكد أن الحديث عن استقلال القضاء في مصر بات نكتة سمجة، وأن الدولة تمارس قمعًا ممنهجًا مغلفًا بغلاف قانوني هش، لا يليق إلا بدولة بوليسية تُدار بالأوامر لا بالدستور.

 

متى ينكسر القيد؟
تتكرر الأحكام الظالمة، وتتكدس الزنازين بضحايا الكلمة والموقف، فيما يواصل النظام بناء جمهورية الخوف. لكن التاريخ يعلمنا أن الشعوب لا تنام إلى الأبد، وأن القمع مهما طال، لا يصنع استقرارًا، بل يغلي تحته غضبٌ لا بد أن ينفجر.