في مشهد يعيد تونس إلى حقب الاستبداد السياسي، أعلنت هيئة الدفاع عن المعتقلين السياسيين أن المعارض رضا بلحاج دخل في إضراب عن الطعام منذ 8 نوفمبر 2025، احتجاجًا على ما وصفه بـ"المحاكمة السياسية" في قضية "التآمر على أمن الدولة".
ومع انضمامه، تتسع دائرة المضربين لتشمل وجوهًا بارزة من المعارضة مثل جوهر بن مبارك وعصام الشابي وراشد الغنوشي، في تحدٍّ غير مسبوق لسلطة الرئيس قيس سعيّد، الذي يواجه اليوم اتهامات متزايدة بتحويل الدولة إلى آلة قمع ممنهج ضد خصومه.
"التآمر على أمن الدولة": ذريعة سياسية أم عدالة انتقائية؟
منذ توليه السلطة المطلقة عبر الإجراءات الاستثنائية في يوليو 2021، استخدم قيس سعيّد شعار "التآمر على أمن الدولة" كأداة جاهزة لإسكات المعارضة.
المتهمون في هذه القضية، وهم من أبرز رموز الحياة السياسية والفكرية في البلاد، لم يُمنحوا حق الدفاع الكافي، وأُجريت محاكماتهم عن بُعد في خرق واضح لمعايير العدالة الدولية.
منظمات حقوق الإنسان داخل تونس وخارجها، من بينها العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، أكدت أن هذه التهم "ذات طابع سياسي"، هدفها إقصاء الأصوات المخالفة للرئيس.
لكن السلطة تواصل التذرع بـ"الأمن القومي" لتبرير الاعتقالات، في حين يتدهور القضاء تحت ضغط الإملاءات الرئاسية.
رضا بلحاج.. صوت من داخل الجوع
إضراب رضا بلحاج ليس مجرد احتجاج فردي، بل صرخة في وجه نظام يُحاكم خصومه كما لو كانوا أعداء دولة.
بلحاج، الذي عرف بمواقفه الوطنية منذ الثورة، دخل في "معركة الجوع" للمطالبة باسترجاع حقوقه، بعد أن وجد نفسه في محاكمة تفتقر إلى أبسط ضمانات العدالة.
بذلك، انضم إلى موجة جديدة من الإضرابات التي تكشف عمق الأزمة السياسية والإنسانية في البلاد، وتؤكد أن السجون التونسية لم تعد أماكن احتجاز، بل ساحات مقاومة ضد القمع.
اتساع رقعة الإضرابات.. وصمت رسمي مخزٍ
المشهد في السجون التونسية اليوم قاتم:
- جوهر بن مبارك يخوض إضرابًا عن الطعام والماء والدواء منذ أواخر أكتوبر، وسط تدهور خطير في حالته الصحية.
- راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة ورئيس البرلمان السابق، انضم تضامنًا مع رفاقه، رغم ظروف احتجازه القاسية.
- عصام الشابي، الأمين العام للحزب الجمهوري، أعلن إضرابًا مفتوحًا دفاعًا عن استقلال القضاء.
- عبد الحميد الجلاصي، المناضل القديم، يخوض الإضراب رغم معاناته من مرض السرطان.
- حتى قضاة معزولون التحقوا بالإضراب، رفضًا لقرارات رئاسية بعزلهم دون محاكمة.
هذه القائمة لا تعبّر فقط عن احتجاج، بل عن حالة تمرد سياسي جماعي ضد سلطة فقدت شرعيتها الأخلاقية والدستورية، وسط صمت حكومي يعكس تبلّد ضمير سياسي.
قيس سعيّد.. من شعارات الثورة إلى دولة القمع
ما كان يُروَّج له كرئيس “ينقذ تونس من الفساد” أصبح اليوم عنوانًا لمرحلة جديدة من القمع.
قيس سعيّد، الذي استغل حالة الغضب الشعبي لتبرير انقلابه على المؤسسات المنتخبة، بات يُحكم قبضته على القضاء والإعلام، ويقود البلاد نحو تجريم المعارضة وتجفيف الحياة السياسية.
الإضرابات الجارية هي نتيجة مباشرة لهذا النهج السلطوي، الذي لم يترك للمعارضين سوى أجسادهم وسلاح الجوع للاحتجاج.
ويكفي أن يضرب قضاة وسياسيون عن الطعام في بلد وُلدت منه ثورات الربيع العربي، ليدرك العالم حجم الكارثة التي تُرتكب باسم “تصحيح المسار”.
تونس بين التكميم والانهيار
تعيش تونس اليوم واحدة من أحلك مراحلها:
- الاقتصاد ينهار، الأسعار ترتفع، والبطالة تتسع، بينما السلطة منشغلة بملاحقة خصومها في قضايا مفبركة.
- البلاد التي حلمت بالديمقراطية تُدار اليوم بقرارات فردية، في غياب تام للمؤسسات، وتحت رئاسة تعتبر كل معارض “خطرًا على الدولة”.
- المعارضة تُخنق في السجون، والقضاء أُفرغ من استقلاله، والإعلام مُكمم، والشعب مُنهك من الصمت.
تونس في اختبار الضمير العالمي
الإضرابات عن الطعام التي يخوضها رضا بلحاج ورفاقه ليست معركة فردية، بل مواجهة مفتوحة بين إرادة الحرية وسلطة الاستبداد.
قيس سعيّد وحكومته يتحملان كامل المسؤولية عن أي تدهور في صحة المضربين، وعن هذا الانحدار الخطير في سجل حقوق الإنسان التونسي.
إن صمت المجتمع الدولي على هذه الانتهاكات يمثل تواطؤًا مع القمع، ويحوّل تونس من مهد للثورات إلى مختبر للطغيان الحديث.
فهل ينتظر العالم موت أحدهم حتى يتحرك؟ أم أن “الأمعاء الخاوية” أصبحت آخر وسيلة لقول كلمة الحق في وجه الحاكم الواحد؟

