تستمر الحكومة في انتهاج سياسات اقتصادية تزيد من معاناة المواطنين وتثقل كاهلهم بأعباء جديدة، في تجاهل تام لتدهور قدرتهم الشرائية والظروف المعيشية القاسية التي يواجهونها.

ففي خطوة جديدة ضمن مسلسل رفع الدعم وتحرير الأسعار، كشفت مصادر حكومية عن قرار وشيك بمراجعة أسعار الغاز المورد للمصانع بشكل ربع سنوي، مع تطبيق زيادة فعلية بدأت تداعياتها تظهر في الأسواق.

هذا القرار، الذي تبرره الحكومة بأنه يهدف إلى الوصول "للسعر العادل" ومواجهة ارتفاع تكلفة الاستيراد، لا يمثل في حقيقته سوى حلقة جديدة في سياسة ممنهجة لإفقار المصريين، ويهدد بإشعال موجة غلاء كارثية ستطال كافة السلع والخدمات الأساسية، لتؤكد أن الحكومة ماضية في طريقها نحو تجويع شعبها مقابل الالتزام بإملاءات خارجية وتنفيذ أجندات لا تخدم سوى مصالح ضيقة.

 

تحرير أسعار الغاز.. قرار يصب الزيت على نار الغلاء

في تطور يكشف عن نوايا الحكومة المبيتة، أعلنت وزارة البترول أنها تعتزم مراجعة سعر الغاز المقدم للقطاع الصناعي كل ثلاثة أشهر، بدءًا من يناير القادم.

لكن هذا الإعلان جاء متزامنًا مع تطبيق زيادة فعلية منذ سبتمبر الماضي، حيث تم رفع سعر الغاز بحد أدنى دولار واحد لكل مليون وحدة حرارية بريطانية.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل قررت الحكومة إلغاء الدعم بشكل كامل عن المصانع الجديدة، حيث سيتم بيع الغاز لها بسعر غير مدعوم مرتبط بمتوسط تكلفة الإنتاج المحلي والاستيراد، مع إضافة دولار إضافي لكل مليون وحدة حرارية.

وتختلف أسعار الغاز الجديدة باختلاف النشاط الصناعي، حيث تم تحديد السعر عند 4.5 دولار لصناعة الأسمدة الأزوتية، و5.75 دولار لصناعات الحديد والصلب، و12 دولارًا لصناعة الأسمنت، و4.75 دولار للأنشطة الصناعية الأخرى.

هذه الزيادات، ورغم استثناء 4 مصانع أسمدة بشكل مؤقت لوجود عقود خاصة ، فإنها تضع القطاع الصناعي بأكمله أمام تحديات وجودية، وتفتح الباب على مصراعيه أمام زيادات حتمية في تكاليف الإنتاج.

ويرى د. رمزي الجرم، خبير اقتصادي: حذر من أن رفع الدعم عن المنتجات البترولية سيؤدي إلى "انخفاض القوة الشرائية لدى المواطنين، نتيجة زيادة معدلات التضخم بشكل ملحوظ". هذا يؤكد أن التأثير على المواطن ليس مجرد تخمين، بل هو نتيجة متوقعة من الخبراء.

 

من المصنع إلى المستهلك: رحلة حتمية لزيادات كارثية في الأسعار

تتجاهل الحكومة حقيقة أن أي زيادة في أسعار الطاقة، خاصة الغاز الذي يعد مدخل إنتاج رئيسي، ستنتقل بشكل مباشر وفوري إلى المستهلك النهائي. فالصناعات المتأثرة بالقرار هي صناعات استراتيجية تمس حياة المواطن اليومية بشكل مباشر.

على سبيل المثال، حذر محمد حنفي، مدير غرفة الصناعات المعدنية، من أن زيادة دولار واحد في سعر الغاز سترفع تكلفة إنتاج طن الحديد بنحو 500 جنيه. هذه الزيادة ستؤدي حتمًا إلى ارتفاع أسعار مواد البناء، مما يزيد من تكلفة السكن ويصيب قطاع التشييد بالركود.

الأخطر من ذلك هو تأثير القرار على قطاع الأسمدة، الذي يعتمد عليه القطاع الزراعي بشكل كلي. فمع رفع سعر الغاز لمصانع الأسمدة، من 4.5 دولار إلى 5.5 دولار كحد أدنى ، سترتفع تكلفة الأسمدة على المزارعين، مما سيؤدي بالضرورة إلى ارتفاع أسعار المحاصيل الزراعية والخضروات والفواكه، أي الغذاء الأساسي للمصريين.

ويأتي هذا في وقت يعاني فيه السوق المحلي بالفعل من ضعف القوة الشرائية، مما يضع المصنعين والمستهلكين في مواجهة معادلة مستحيلة: إما أن تتحمل المصانع الخسائر وتقلص إنتاجها، أو تمرر الزيادة للمواطن الذي لم يعد لديه ما يتحمله.
وكان وائل النحاس، الخبير الاقتصادي، أكثر تشاؤمًا، حيث صرح بأن "الأسعار ستزيد بوتيرة أكبر، فضلاً عن زيادات فورية بالعديد من الخدمات والاحتياجات الأساسية في مقدمتها رغيف العيش". هذا يربط القرار مباشرةً بقوت المواطن اليومي.

 

تخبط حكومي ومبررات واهية: بين ضغوط الصندوق والتخلي عن المسؤولية

تسوق الحكومة مبررات متعددة لهذه القرارات الصادمة، فتارة تتحدث عن ارتفاع فاتورة استيراد الغاز المسال، وتارة أخرى عن ضرورة الالتزام بخطة إلغاء الدعم المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي بنهاية عام 2025.

هذه المبررات تكشف عن أولويات الحكومة الحقيقية، فهي تضع الالتزامات الخارجية فوق مسؤوليتها الاجتماعية تجاه مواطنيها، وتفضل تحميل العبء الأكبر على الفئات الأكثر فقرًا لخفض عجز الموازنة.

وتوقع هاني جنينة، رئيس قسم البحوث في شركة فاروس القابضة، أن رفع أسعار الوقود سيؤدي إلى زيادة معدل التضخم الشهري إلى ما بين 3% و3.5%، وارتفاع التضخم السنوي

كما يكشف مسار اتخاذ القرار عن حالة من التخبط والارتباك، فالحكومة تراجعت بشكل غير معلن عن تطبيق زيادة كانت مقررة في أغسطس الماضي، لتعود وتفرضها بعد ذلك بأسابيع.

هذا التردد يشير إلى غياب الرؤية والاستراتيجية، وأن القرارات تتخذ بردود أفعال متسرعة دون دراسة كافية لآثارها الاجتماعية المدمرة.

ويزيد من هذا التخبط الخلاف القائم حاليًا بين الشركة القابضة للغازات "إيجاس" وشركات الأسمدة حول آلية تطبيق المعادلة السعرية الجديدة، مما يهدد استقرار الإنتاج في هذا القطاع الحيوي.

 

سياسة التجويع كخيار استراتيجي

إن قرار رفع أسعار الغاز على المصانع ليس مجرد إجراء اقتصادي فني، بل هو اختيار سياسي واجتماعي يعكس فلسفة الحكومة في إدارة الأزمة.

فبدلًا من البحث عن حلول حقيقية لزيادة الإنتاج المحلي من الغاز، ودعم الصناعة الوطنية لزيادة قدرتها التنافسية، تلجأ الحكومة إلى الحل الأسهل وهو تحميل الفاتورة كاملة للمواطن.

هذه السياسة لا تؤدي فقط إلى إشعال موجة غلاء جديدة، بل تقضي على ما تبقى من الطبقة الوسطى، وتدفع بملايين جدد تحت خط الفقر، وتؤكد أن "تجويع المصريين" لم يعد مجرد شعار للمعارضين، بل أصبح سياسة واقعية ومستمرة تنتهجها الحكومة بدم بارد.