مرّت ثلاث سنوات منذ أن افتتح عبد الفتاح السيسي مصنع الرمال السوداء بمدينة البرلس بمحافظة كفر الشيخ، المشروع الذي وُصف بأنه ثروة قومية مصرية واعدة ومنصة استراتيجية لخلق صناعة جديدة ذات قيمة مضافة واقتصاد مستدام. لكن، على الرغم من التصريحات الكبرى والتكريس الإعلامي الضخم للمشروع، فوجئ المصريون خلال الأيام الماضية بشحنة أولى ضخمة تُصدر على هيئة خام إلى السعودية، تزن 10 آلاف طن متري، وهو ما يدل على استمرار تصدير الثروة الخام دون استغلال حقيقي للموارد في الداخل، ما يطرح تساؤلات جدية عن جدوى وفعالية المشروع وأهدافه الحقيقية.

 

10 آلاف طن خام ترسل إلى السعودية

بحسب المعلومات المتوفرة، قامت شركة نقل لوجستي أرضية بخدمة نقل الرمال السوداء من منطقة البرلس بالسواحل الشمالية لمصر إلى ميناء الإسكندرية حيث تم شحنها عبر البحر إلى السعودية، في أول شحنة كبيرة من نوعها. حجم الشحنة (10 آلاف طن متري) يُعد الأكبر التي تم تصديرها منذ افتتاح المصنع، وهي تخضع لتعاقدات تصدير منتظمة تحت مسمى "تصدير خام" بدلاً من تصدير منتجات مصنعة أو معدلة تستفيد منها الصناعة المحلية.

من الجدير ذكره أن الرمال السوداء تحتوي على خامات معادن ثمينة مثل الإلمانيت والزيركون والجارنت والروتايل، والتي تدخل في صناعات دقيقة كالصناعات العسكرية، الطائرات، الإلكترونيات، وغيرها، لذا فإن تصدير الرمال الخام دون معالجة يخلف خسائر اقتصادية جسيمة.

 

كذب السيسي.. افتتاح المصنع ولم يعد الحلم حقيقة

في أكتوبر 2022، افتتح عبد الفتاح السيسي مصنع الرمال السوداء في البرلس كأحدث مصنع في تكنولوجيا التعدين عالميًا، ووصفه بأنه سيحقق عوائد ضخمة ويغير مجرى الاقتصاد المصري ويضيف قيمة للصناعة الوطنية. لكن الواقع الحالي يكذب هذه التصريحات، حيث تظل خريطة تصدير الرمال السوداء تخلو من أي جهد حقيقي لتعظيم القيمة المضافة بمصر، بينما تتحول أغلب الإنتاج الخام إلى صادرات أولية بملاليم من الدولارات بدلاً من تحولها لمنتجات صناعية.

تصريحات مسؤولي الشركة تكرر كلامًا عن تطوير الصناعة، لكن الواقع أن المصنع الذي كان من المفترض أن يولد آلاف فرص العمل ويخفض فاتورة الاستيراد، ما زال يُجري تصدير المواد دون تصنيع فعلي، وهو ما أثار غضب خبراء الاقتصاد وسخط دوائر الصناعة المحلية.

الواقع يظهر أن المصنع لا يعمل وفق الطموحات المعلنة، ولا يؤدي دوره في تحقيق الاكتفاء الصناعي أو خلق فرص العمل المتوقعة (5000 وظيفة كانت من بين وعود الافتتاح). تصريحات وتصوير افتتاح المصنع عام 2022 لا تكاد تُرى على الأرض اليوم، فتصدير الرمل الخام يكشف حجم التراجع والتهرب من الالتزام الحقيقي

 

مراحل إنشاء المشروع وأبرز أرقامه

المشروع تم إعلانه رسميًا في 2016، مع استثمارات تجاوزت مليار جنيه، وأجريت دراسات جدوى بالتعاون مع شركات أسترالية متخصصة.

تنتشر الرمال السوداء على طول الساحل الشمالي من رشيد إلى العريش في 11 موقعًا بتركيزات كبيرة بمخزون حوالي 1.3 مليار متر مكعب، موزعة على رشيد، دمياط، البرلس، والعريش.

يحتوي المشروع على معادن أساسية تدخل في 41 صناعة مختلفة، مع هدف تحقيق عوائد متوقعة بـ 6 مليارات دولار خلال عدة سنوات مستقبلية.

 

خسارة مصر وفرصة ضائعة

أشار خبراء اقتصاديون إلى أن تصدير الرمال السوداء خاماً بدون عمليات تصنيع وتطوير الصناعات المرتبطة بها يمثل خسارة اقتصادية كبيرة، إذ تخسر مصر عشرات الملايين من الدولارات سنوياً كانت يمكنها تحقيقها من خلال صهر وتعبئة المعادن لصناعات محلية وعالمية مربحة.

وقد طالب اللواء مجدي الطويل رئيس مجلس إدارة الشركة المصرية للرمال السوداء بسرعة إعادة تقييم مخرجات المشروع، وتأمين سلاسل التصنيع التي تسمح بأقصى استفادة من المعادن بدل تصديرها دون قيمة مضافة.

 

الرمال السوداء.. حلم ينتظر الاستيقاظ الحقيقي

ثلاث سنوات من الوعود والتغطيات الإعلامية، ولكن الرمال السوداء في مصر لا تزال تُصدر خامًا للسعودية، بعيدًا عن التصنيع الوطني وإضافة القيمة التي وعد بها السيسي. يبدو أن المشروع يمر بمرحلة تراجع خطيرة، تقوض فرص الاستثمار الحقيقي، وتفضح سياسات الفشل في الاستفادة من ثروات مصر الطبيعية.

لعل ما يحتاجه المشروع ليس افتتاحًا إعلاميًا فقط، بل إدارة حقيقية، ورؤية صناعية واضحة، واستراتيجية وطنية تعطي الأولوية لصناعة المعادن في الداخل وتحويل مصر إلى لاعب إقليمي في التعدين والصناعات عالية التقنية.