شهدت السوق المصرية تحولًا لافتًا في تعاملها مع شهادات الإيداع الدولية (GDRs)، وهي الأداة التي كانت تمثل جسرًا لربط الشركات المصرية بالمستثمرين الأجانب عبر بورصة لندن. فبعدما بلغ عدد البرامج 14 برنامجًا في عام 2016، لم يتبق اليوم سوى 6 برامج فقط، أي بتراجع نسبته 57% خلال تسع سنوات. هذا التراجع يطرح تساؤلات جادة حول جدوى هذه الآلية وأسباب فقدانها بريقها الذي كانت تحمله مطلع الألفية.

 

آلية جذب لم تعد فعّالة

شهادات الإيداع الدولية هي أوراق مالية تصدرها بنوك استثمار أجنبية مقابل الأسهم المقيدة محليًا، بحيث يتمكن المستثمرون الأجانب من تداولها في أسواق عالمية مثل بورصة لندن. وبذلك، تمثل هذه الشهادات وسيلة للشركات المصرية لجذب رؤوس أموال أجنبية دون الحاجة إلى إدراج مباشر في الخارج.

لكن التطورات الأخيرة أظهرت أن الفائدة المرجوة لم تتحقق بالقدر الكافي. فبحسب مصادر سوقية، فإن أحجام التداول على معظم الشهادات ضعفت بشكل كبير، ما جعل العديد من الشركات تعيد النظر في جدوى الاحتفاظ ببرامجها.

 

قرارات شطب متتالية

خلال العام الجاري، أعلنت شركتا إيديتا للصناعات الغذائية وحديد عز شطب شهادات الإيداع الخاصة بهما. وقبل ذلك، خرجت شركات أخرى تباعًا من بورصة لندن، لتتقلص القائمة إلى 6 فقط تشمل: البنك التجاري الدولي، والمجموعة المالية هيرميس القابضة، ومدينة مصر، والمصرية للاتصالات، وأوراسكوم للاستثمار القابضة، وليسيكو مصر.

هذه الموجة من الشطب عكست ضغوطًا متزايدة تتعلق بارتفاع التكاليف وضعف الجدوى الاقتصادية، في وقت يشهد فيه الاقتصاد المصري صعوبات واسعة مرتبطة بسعر الصرف وتراجع الاستثمار الأجنبي المباشر وغير المباشر.

 

تصريحات البورصة: محاولة لإنعاش الأداة

إسلام عزام، رئيس البورصة المصرية، أكد في تصريحات صحفية أن البورصة لا تزال تولي أهمية لتطوير التداول على شهادات الإيداع الدولية، مشيرًا إلى أن هناك جهودًا لحث الشركات على الاستمرار أو الانضمام لهذه الآلية. لكنه في الوقت ذاته أقر ضمنيًا بوجود تحديات تتعلق بجاذبية هذه الأداة للمستثمرين والشركات على حد سواء.

 

تكاليف مرتفعة وعائد ضعيف

عمرو الألفي، رئيس استراتيجيات الأسهم في شركة "ثاندر لتداول الأوراق المالية"، أوضح أن السبب الرئيس وراء اتجاه الشركات إلى الشطب هو "ضعف أحجام التداول في الخارج بجانب ارتفاع تكلفة الإصدار". وأضاف أن الاحتفاظ بالبرامج بات غير مجدٍ اقتصاديًا بالنسبة لكثير من الشركات التي لا ترى مردودًا يعوّض هذه التكاليف.

من جانبه، أشار هاني جنينة، رئيس وحدة البحوث في "الأهلي فاروس"، إلى أن غياب المستثمر الأجنبي كان العامل الأبرز في تراجع جدوى الشهادات. وأوضح أن ازدواجية المعايير المحاسبية والإفصاحات المطلوبة بين السوق المحلية والدولية تفرض أعباء إضافية على الشركات، في وقت لم تعد هذه البرامج تحقق الهدف الأساسي المتمثل في جذب المستثمرين الأجانب.

 

استثناء البنك التجاري الدولي

رغم الموجة العامة من التراجع، فإن البنك التجاري الدولي (CIB) يظل حالة استثنائية، إذ ما زالت شهاداته تلقى إقبالًا من المستثمرين الأجانب وتتمتع بأحجام تداول معتبرة. ويرى مراقبون أن قوة البنك في السوق المصرية، وسمعته الإقليمية، إلى جانب مكانته كمؤسسة مالية رائدة، جعلت برنامج شهاداته مجديًا حتى الآن، على عكس بقية الشركات.

 

مواقف متباينة للشركات المتبقية

فيما أكدت كل من المصرية للاتصالات والمجموعة المالية هيرميس القابضة والبنك التجاري الدولي استمرارها في الإبقاء على برامج شهادات الإيداع الدولية دون نية للشطب، فإن شركة مدينة مصر تدرس –بحسب مصادر مطلعة– مدى جدوى استمرارها، وهو ما قد يضيف حلقة جديدة في سلسلة الانسحابات إذا ما قررت التخارج.

 

مستقبل غامض للشهادات

المراقبون يرون أن استمرار الانكماش في برامج شهادات الإيداع الدولية يعكس أزمة أعمق مرتبطة بتراجع اهتمام المستثمر الأجنبي بالبورصة المصرية ككل. وفي ظل ارتفاع تكاليف القيد والإفصاح، مع ضعف السيولة في الأسواق العالمية لهذه الشهادات، فإن مستقبلها يبدو غامضًا، ما لم يتم اتخاذ خطوات جادة لإصلاح بيئة الاستثمار وتعزيز الثقة.

وبعد أكثر من عقدين من اعتماد شهادات الإيداع الدولية كأداة للتواصل مع المستثمرين الأجانب، تبدو التجربة في مصر أمام منعطف جديد. فالتراجع من 14 إلى 6 برامج لم يكن مجرد صدفة، بل انعكاس لمعادلة غير متوازنة بين التكلفة والعائد. وبينما يظل البنك التجاري الدولي استثناءً، فإن بقية الشركات إما انسحبت أو تفكر جديًا في ذلك، ما يضع علامات استفهام حول جدوى استمرار هذه الأداة في ظل الظروف الاقتصادية الحالية.