لم يعد خافيًا أن مصنع الألومنيوم بنجع حمادي، أحد أبرز القلاع الصناعية في مصر منذ ستينيات القرن الماضي، يعيش أخطر مراحله على الإطلاق. فبينما يئنّ العمال تحت وطأة الأزمات المتفاقمة، تتواصل السياسات الحكومية التي تُفسَّر على نطاق واسع باعتبارها تمهيدًا مقصودًا للتفريط في المصنع لصالح الاستثمارات الإماراتية. من رفع أسعار الطاقة بصورة غير مسبوقة، إلى تجاهل المشكلات الفنية والإدارية، يبدو أن الهدف المرسوم هو إنهاك هذا الصرح العريق حتى يسهل تمريره على طبق من فضة.

 

رفع أسعار الطاقة: الضربة الأولى

من المعروف أن صناعة الألومنيوم من أكثر الصناعات كثافة في استهلاك الكهرباء. ومع الزيادات المتكررة لأسعار الطاقة التي فرضتها الحكومة خلال السنوات الأخيرة، تكبد مصنع نجع حمادي خسائر هائلة جعلت تشغيله شبه مستحيل بالمعايير الاقتصادية. بينما تصر الحكومة على أن رفع الأسعار جزء من “إصلاحات هيكلية”، يرى خبراء الاقتصاد أن هذه الخطوة ليست سوى أداة لخنق المصنع وإضعافه ماليًا لتبرير خصخصته لاحقًا.

 

أزمات متراكمة وإهمال حكومي متعمد

يعاني المصنع منذ سنوات من مشكلات متعددة: تقادم خطوط الإنتاج، نقص الصيانة، تدهور المعدات، ومشكلات بيئية وصحية للعمال. ورغم النداءات المتكررة من النقابات العمالية وخبراء الصناعة، لم تقدم الحكومة حلولًا جذرية أو استثمارات حقيقية لإنقاذه. بل يبدو أن هناك تعمدًا في ترك الأزمات تتفاقم لتبرير تدخل خارجي لاحق بحجة “التطوير”.

 

الإمارات تدخل على الخط تحت لافتة "التطوير"

في الفترة الأخيرة، برزت الإمارات كلاعب أساسي في ملف المصنع، حيث بدأت مفاوضات حول الدخول باستثمارات مباشرة لتطويره. رسميًا، يتم تسويق الخطوة باعتبارها "شراكة استراتيجية" لإنقاذ المصنع، لكن أصواتًا عمالية ووطنية اعتبرت الأمر غطاءً لعملية استحواذ تدريجي على أحد أهم أصول مصر الصناعية. لا سيما أن السيناريو تكرر في قطاعات أخرى، حيث تحولت الإمارات من شريك إلى مالك.

 

إضراب العمال يكشف المستور

لم يتوقف العمال عند حدود الشكوى أو التحذير، بل لجأوا مؤخرًا إلى الإضراب داخل مصنع "مصر للألومنيوم" بنجع حمادي، في خطوة غير مسبوقة منذ عقود، احتجاجًا على تجاهل الحكومة لمطالبهم ولظروف العمل القاسية التي يمرون بها. هذا الإضراب جاء ليؤكد أن ما يجري ليس مجرد “تطوير” كما تدّعي السلطة، بل خطة مدروسة لتجفيف موارد المصنع وإنهاكه ماليًا، تمهيدًا لبيعه إلى الإمارات رغم أنه ما يزال يحقق أرباحًا ويُعتبر من أكبر مصادر العملة الصعبة عبر صادراته. تحرك العمال فضح المخطط الرسمي، وأرسل رسالة واضحة بأن التفريط في هذه القلعة الصناعية لن يمر دون مقاومة من داخلها قبل خارجها.

 

 

العمال بين مطرقة السياسات وسندان المستقبل المجهول

العمال هم الحلقة الأضعف في هذه المعادلة. فمع تراجع الأرباح وزيادة الضغوط التشغيلية، يواجهون تهديدات مباشرة لأجورهم وحقوقهم الوظيفية. الاحتجاجات العمالية التي اندلعت بين الحين والآخر قوبلت بالتجاهل أو القمع، ما جعل المخاوف تتعاظم من أن أي صفقة بيع ستؤدي إلى تسريح واسع للعمالة أو تغيير شامل لشروط العمل. ويؤكد قادة النقابات أن الحكومة تتعامل مع العمال باعتبارهم “تكلفة زائدة” لا أكثر.

 

دلالات سياسية واقتصادية

بيع مصنع الألومنيوم بنجع حمادي – في حال تم – لن يكون مجرد صفقة اقتصادية. بل يمثل إضعافًا لركيزة من ركائز الصناعة الوطنية التي كانت شاهدة على حلم الاستقلال الاقتصادي في عهد جمال عبد الناصر. ويفسّر كثير من المراقبين الخطوة ضمن سياق أوسع من بيع الأصول الاستراتيجية المصرية إلى شركاء خارجيين، في محاولة لتوفير سيولة مالية قصيرة الأجل، ولو على حساب المستقبل الصناعي والسيادة الوطنية.

وفي النهاية فإن الأزمة في مصنع الألومنيوم بنجع حمادي ليست أزمة إدارية عابرة، بل تعكس سياسة ممنهجة لإضعاف الكيانات الوطنية الكبرى وفتح الباب أمام استحواذات خارجية، وفي مقدمتها الإماراتية. رفع أسعار الطاقة، الإهمال المتعمد، والترويج لصفقات التطوير الخارجية، كلها خيوط في شبكة واحدة هدفها تحويل الصرح الصناعي إلى سلعة مطروحة للبيع. وبينما يسوّق النظام ذلك كـ"شراكة استراتيجية"، يراه كثيرون خيانة لصناعة مصرية عريقة وتهديدًا مباشرًا لحقوق آلاف العمال ومستقبل السيادة الاقتصادية للبلاد.