لم يعد خروج رجال الأعمال من مصر مجرد استثناء أو قرار فردي، بل أصبح ظاهرة تتكرر وتتصاعد في ظل بيئة اقتصادية خانقة. إعلان رجل الأعمال ناصف ساويرس عن خطط لاستثمار ما يصل إلى 50 مليار دولار في الولايات المتحدة بدل توجيهها إلى الداخل، شكّل صفعة موجعة للاقتصاد المصري ورسالة صارخة للحكومة.
فالسياسات القائمة على الضرائب الباهظة، والفوائد البنكية القياسية، والرسوم التعجيزية، فضلاً عن مناخ سياسي قمعي، دفعت كبار المستثمرين إلى البحث عن ملاذات أكثر أماناً وجدوى.
هذه ليست مجرد خسارة مالية، بل مؤشر على تآكل الثقة في قدرة الدولة على حماية رأس المال الوطني وتنميته.
القمع السياسي وفقدان الثقة
يرى الخبير الاقتصادي محمود العسقلاني أن مناخ القمع السياسي ينعكس سلباً على الاقتصاد، لأنه "يجعل المستثمر يشعر أنه بلا حماية قانونية أو ضمانات قضائية مستقلة".
في ظل غياب الحريات وتقييد الإعلام والمعارضة، تتراجع الثقة بالبيئة الاستثمارية. المستثمر لا يبحث فقط عن أرباح، بل عن أمان سياسي يضمن له استقرار مشروعه وحقوق ملكيته.
وهذا ما افتقده كثيرون في مصر خلال العقد الأخير، ما سرّع قرارهم بالخروج.
الضرائب والرسوم المتزايدة
يؤكد الدكتور رشاد عبده، الخبير الاقتصادي ورئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية، أن "الإفراط في فرض الضرائب والرسوم هو رسالة طاردة لرأس المال".
الحكومة، بدلاً من تشجيع الاستثمار، تتعامل مع رجال الأعمال كخزان مالي لسد العجز.
هذا التوسع في الضرائب دون مقابل من خدمات أو بنية تحتية مناسبة، دفع الشركات للتفكير في إعادة توطين مقارها أو أموالها في أسواق أقل كلفة وأكثر شفافية.
الفوائد البنكية وخنق الاستثمار
يشير الخبير الاقتصادي هشام إبراهيم إلى أن "مستويات الفائدة المرتفعة في مصر تجعل أي استثمار جديد غير مجدٍ".
رفع أسعار الفائدة إلى أرقام قياسية لمكافحة التضخم أدى إلى نتيجة عكسية، إذ صار التمويل المصرفي مكلفاً بشكل غير منطقي. المستثمر الذي يحتاج إلى تمويل بنكي لمشروعه يفضل الانسحاب، بينما من يملك رأس المال الحر يبحث عن الخارج حيث العائد أكبر والكلفة أقل.
أزمة العملة الصعبة
يرى الدكتور علاء السيد، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، أن "أزمة الدولار ليست أزمة عرض وطلب فقط، بل أزمة ثقة".
القيود المفروضة على التحويلات وصعوبة الحصول على العملة الصعبة دفعت الشركات متعددة الأنشطة إلى البحث عن مراكز مالية في الخارج.
المستثمر الذي يواجه تأخيرات في استيراد مدخلات الإنتاج أو تحويل أرباحه، لن يفكر مرتين قبل أن ينقل استثماراته إلى بيئة تضمن له حرية الحركة المالية.
البيئة الإقليمية البديلة
يوضح الخبير الاقتصادي فخري الفقي أن "دول الخليج، وعلى رأسها الإمارات والسعودية، تقدم حوافز وضمانات جذبت حتى كبار رجال الأعمال المصريين".
نقل شركات عائلية إلى أبوظبي أو الرياض لم يعد ظاهرة فردية بل توجهاً عاماً، بسبب مرونة القوانين وانخفاض الضرائب وتوافر الحماية القانونية.
استثمارات ساويرس في الولايات المتحدة ما هي إلا انعكاس لهذا التوجه الأوسع: البحث عن أسواق تقدر المستثمر وتوفر له الاستقرار.
وختاما فقرار ناصف ساويرس ليس مجرد خطوة شخصية، بل مرآة لأزمة أعمق تعيشها مصر. السياسات الحكومية القائمة على القمع، الضرائب المفرطة، الفوائد المرتفعة، وأزمة العملة، خلقت بيئة طاردة تدفع المستثمرين إلى الهروب.
بينما ترفع الحكومة شعارات "تشجيع الاستثمار"، نجد أن رجال الأعمال الكبار يوجهون ملياراتهم إلى الخارج.
وإذا لم تُراجع الدولة سياساتها جذرياً وتعيد بناء الثقة مع القطاع الخاص، فإن موجة الخروج ستتسع، ومعها ستضيع فرص التنمية الحقيقية، ليبقى الاقتصاد أسيراً للديون والمساعدات الخارجية.