وائل قنديل
كاتب صحافي مصري
وقف دونالد ترامب في المؤتمر الصحافي المُشترك مع رئيس الوزراء البريطاني في لندن سعيداً بما وصفها اتفاقيات هائلة غير مسبوقة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة اللتيْن تربطهما، بحسب ترامب، علاقات وأواصر ليس لها مثيل في تاريخ الأمم. كان ترامب يتكلّم عن صفقاتٍ تجاريةٍ بقيمة عدّة مليارات من الدولارات للتدليل على متانة الارتباط بين البلدين، اللذين تسيران معاً بوصفهما "أنا حضارية واحدة".
في مقابل ذلك، ينظر ترامب الذي عبّأ خزائنه بأكثر من خمسة آلاف مليار دولار من الأموال العربية، إلى العرب بوصفهم "الآخر" أمام "الأنا الأميركية الإسرائيلية الموحّدة"، والتي عبّر عنها الرئيس الأميركي غير مرّة، أحدّثها وهو يتحدّث عن الضربة الإسرائيلية لقطر، بقوله "أبلغت نتنياهو عندما نهاجم الآخرين علينا أن نكون حذرين". الأمر نفسه شدّد عليه وطبّقه عمليّاً وزير الخارجية الأميركية، مارك روبيو، وهو يتصرّف ويتحدّث بوصفه صهيونيّاً مخلصاً بعد أن دشّن إنشاء نفق باسم ترامب يمرّ تحت المسجد الأقصى ويربط أجزاء القدس المحتلة التي كان رئيسه قد أعلنها عاصمة يهودية خالصة للكيان الصهيوني.
والحال كذلك، فمهما فعل العرب وقدّموا القرابين على عتبات الأميركي المُتغطرس سوف يبقون كما هم في عقيدته، هم "الآخر" الذي يمكن أن تدلّس عليه ببعض كلماتٍ تدغدغ المشاعر وتبتزّه بها ماليّاً، وتسميه "الحليف" من دون أن يكون ذلك كافياً لمنع الاعتداء عليه عن طريق "نصف أميركا الثاني" إسرائيل التي تضرب وتقصف في كلّ مكان، فتأتي واشنطن، بعد كلّ جريمة لتفرد لها عباءة التبرير، وتعلن أنّ ما بينهما لا ينفصم أبداً مهما أخطأت وأجرمت، وكما يلخص السفير الأميركي لدى الكيان الصهيوني العلاقة بالقول "الولايات المتحدة لديها حلفاء ولها أصدقاء، لكن إسرائيل هي شريكها الحقيقي الوحيد".
هذا هو الواقع الفعلي للعلاقات العربية الأميركية من منظور البيت الأبيض، وهو يشبه كثيراً واقع العلاقة بين العرب وبريطانيا في فترة التحضير لإنشاء الكيان الصهيوني رسميّاً في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، إذ يبدو القادة العرب، في تعاطيهم مع الإرادة البريطانية العليا بشأن فلسطين، مثل عرب اليوم في علاقتهم بالإرادة الأميركية الترامبية الأعلى، وهو سلوك مدهش بالنسبة لغلاة الصهاينة أنفسهم.
حالة الموات، أو الاستسلام للموت، التي يبدو عليها عرب اليوم تبدو صادمة، حتى للأعداء أنفسهم. وأتخيّل لو أنّ الصهاينة المؤسّسين الأوائل عادوا إلى الحياة اليوم لضربوا كفّاً بكفّ أمام هذا الخضوع المجاني من النظام الرسمي العربي أمام جنون اللحظة الأميركية الصهيونية، كما هو الحال عند فلاديمير جابوتينسكي أحد مؤسّسي الحركة الصهيونية، وصاحب نظرية "جدار الصلب" لإخضاع العرب للمشروع الصهيوني، والذي يقول في وثيقة تاريخية، هي مقال منشور في 4 نوفمبر 1923 "ومن هذه الزاوية ليس ثمة فارق ذو دلالة بين "عسكريينا" و"نباتيينا"، فبعضٌ يفضّل جداراً من صلب الحراب اليهودية وبعضٌ آخر جداراً من صلب الحراب البريطانية، والبعض الآخر اتفاقاً مع بغداد ويبدون قانعين بحراب بغداد وهو مزاج غريب وخطر بعض الشيء، لكننا نهلل جميعاً - ليلاً ونهاراً - لجدار الصلب. ولا يعني هذا كله أن الاتفاق مستحيل، فما هو مستحيل هو الاتفاق الاختياري، فطالما ظلّ لديهم شعاع أمل في أنهم يستطيعون التخلص منا فلن يبيعوا هذا الشعاع مقابل أي عباراتٍ معسولةٍ أو أي مدائح، لأنهم ليسوا بلهاء بل أمة، ربما كانت رثة بعض الشيء، لكنها لا تزال حيّة، ولا يمكن لشعب حي أن يقدّم تنازلاتٍ بهذا الحجم في مسائل بهذه الأهمية، إلا حينما لا يعود لديه أدنى أمل".
لو عاد جابوتينسكي اليوم لما صدّق أن من كان يعتبرهم "أمة" صاروا "بلهاء" إلى هذا الحدّ، وهم يتفوّقون على الاحتلال في استنكار فعل المقاومة ومحاصرته، بل كراهيته واعتباره معكّراً صفو العلاقة مع الذات الأميركية العليا، كما يذهبون أبعد من أسلافهم في إظهار "تقاليد الطاعة العربية للسيد الاستعماري الأقوى".