حذر وزير الري المصري الأسبق محمد نصر علام من أن قيام إثيوبيا بملء سد النهضة بالكامل وتشغيل مفيض الطوارئ دون مبرر يشكل خطراً بالغاً على السودان، ويهدد مصر بتقلص حصتها من مياه النيل خاصة في سنوات الجفاف المنخفضة المتوقعة ابتداءً من العام المقبل.
هذا التحذير الجديد يعيد إلى الواجهة واحدة من أخطر الأزمات التي تواجه الأمن القومي المصري، وسط انتقادات حادة للسلطة الحالية التي فرّطت، وفق مراقبين، في حقوق البلاد المائية عبر اتفاقيات هشّة لم تحمِ حصتها التاريخية.
صمت رسمي يقابله قلق شعبي
بينما يطلق الخبراء تحذيرات متكررة من التداعيات الكارثية لسد النهضة، يلتزم النظام المصري صمتاً مريباً، مكتفياً بخطابات دبلوماسية فضفاضة لا تحمل أي آليات ضغط حقيقية على أديس أبابا.
منذ توقيع اتفاق إعلان المبادئ عام 2015 الذي باركه عبد الفتاح السيسي، لم تنجح القاهرة في انتزاع ضمانات ملزمة لملء وتشغيل السد.
بل إن إثيوبيا مضت قدماً في بناء السد وملئه على مراحل، وسط اعتراضات شكلية من الجانب المصري لم تتجاوز التصريحات الإعلامية.
هذا الغياب لأي تحرك فاعل يثير تساؤلات الرأي العام: هل استسلمت مصر للأمر الواقع؟ وهل أصبح مستقبل أمنها المائي رهينة للقرارات الإثيوبية؟
آثار مباشرة على السودان ومصر
تحذير علام ركّز على أن السودان سيكون أول المتضررين من تشغيل مفيض الطوارئ دون مبرر، إذ يعرضه ذلك لفيضانات مفاجئة وتدمير البنية التحتية المائية.
أما بالنسبة لمصر، فإن المخاطر تتركز في تقلص حصتها من المياه، خصوصاً خلال سنوات الجفاف المتتابعة.
ومع دخول مرحلة تغير مناخي عالمي، قد تجد البلاد نفسها أمام نقص حاد في الإمدادات المائية يهدد الزراعة ومصادر الشرب والصناعة على السواء.
التقديرات الأولية تشير إلى أن كل مليار متر مكعب من المياه المفقودة يعادل فقدان عشرات آلاف الأفدنة الزراعية.
ومع وجود أكثر من 100 مليون مواطن يعتمدون بنسبة تزيد على 95% على مياه النيل، فإن أي نقص ولو طفيف ستكون له انعكاسات اجتماعية واقتصادية جسيمة.
تفريط السيسي في الحقوق التاريخية
الانتقادات الموجهة للسيسي لا تتوقف عند سوء إدارة الملف، بل تمتد إلى ما يصفه مراقبون بـ"التفريط المتعمد".
فبتوقيعه على اتفاق 2015، منح أديس أبابا شرعية قانونية لم تكن تملكها من قبل، إذ اعترفت مصر لأول مرة بحق إثيوبيا في بناء السد دون اشتراطات واضحة للحفاظ على حصتها المائية.
منذ ذلك التاريخ، استثمرت إثيوبيا الوقت في البناء والتخزين، بينما اكتفت القاهرة بالتصريحات والمناورات الشكلية.
وبحسب خبراء قانونيين، كان يمكن لمصر التمسك بالاتفاقيات الدولية التي تضمن لها حصة ثابتة من مياه النيل (55.5 مليار متر مكعب سنوياً)، لكن النظام فضّل سياسة "التنازلات" تحت لافتة التعاون المشترك.
أزمات متفاقمة للمزارعين والمستهلكين
على الأرض، يدرك المصريون التداعيات المباشرة لنقص المياه. المزارعون يعانون بالفعل من تراجع مناسيب الري، ما يدفعهم للاعتماد المتزايد على المياه الجوفية والآبار بتكلفة أعلى.
كما تتقلص مساحات زراعة المحاصيل الاستراتيجية كالقمح والأرز، وهو ما يفاقم أزمة الأمن الغذائي.
في المدن، يواجه المواطنون انقطاعات متكررة أو ضعفاً في إمدادات المياه، بينما تتضاعف فواتير الكهرباء والمياه مع تزايد الاعتماد على محطات التحلية المكلفة.
كل هذه الأوضاع تجعل من ملف سد النهضة قضية حياة أو موت، لا مجرد ملف تفاوضي كما تصوره السلطة.
خبراء: لا وقت للمناورات
يرى عدد من الخبراء أن تصريحات علام يجب أن تكون جرس إنذار أخيراً قبل الدخول في مرحلة اللاعودة.
فالمسألة لم تعد تحتمل الانتظار أو الرهان على المفاوضات العبثية.
المطلوب، بحسب هؤلاء، هو تحرك دبلوماسي صارم مدعوم بخيارات ضغط حقيقية، تشمل اللجوء إلى مجلس الأمن، وتفعيل التحالفات الإقليمية، بل واستخدام أوراق الضغط الاقتصادية والتجارية ضد أديس أبابا.
لكن في ظل السياسات الحالية التي يصفها منتقدون بـ"الانهزامية"، يظل هذا التحرك بعيد المنال. فالنظام، كما يقولون، مشغول بصفقات الغاز والديون الخليجية أكثر من انشغاله بأمن مصر المائي.
وفي الأخير فتصريحات وزير الري الأسبق محمد نصر علام أعادت تذكير المصريين بحقيقة قديمة: أن النيل هو شريان الحياة الوحيد للبلاد. غير أن التفريط الذي مارسه السيسي وحكومته في هذا الملف يجعل مصر اليوم تواجه أخطر تهديد وجودي منذ عقود.
وفي ظل غياب إرادة سياسية حقيقية للدفاع عن الحقوق التاريخية، يبقى شبح العطش يطارد الملايين، فيما يواصل النظام إنكار الكارثة أو ترحيلها إلى الغد.
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: من يحاسب من تجرأ على توقيع وثيقة فرّطت في النيل، ومن يضمن ألا يدفع الشعب المصري الثمن الأكبر من حياته ولقمة عيشه؟