منذ سنوات، يعيش المصريون تحت ضغط اقتصادي غير مسبوق، مع ارتفاع معدلات التضخم، وتدهور القوة الشرائية للجنيه، وزيادة أسعار السلع الأساسية. وفي خضم هذه الأزمة، خرج مصطفى مدبولي رئيس وزراء السيسي ليعلن أن الحكومة تستعد للتحول من الدعم العيني إلى الدعم النقدي، بدعوى أن هذه الخطوة ستضمن وصول الدعم لمستحقيه بشكل مباشر، وتقليل الفاقد في المنظومة الحالية.
لكن وراء هذه التصريحات "المطمئنة" تكمن حقيقة مختلفة: هذه ليست سوى الخطوة الأولى على طريق رفع الدعم نهائيًا، وترك ملايين المصريين في مواجهة مباشرة مع الأسواق المنفلتة من الرقابة.
دعم نقدي أم رفع دعم؟
يصرّ مدبولي على أن التحول الجديد يستهدف العدالة الاجتماعية وضمان وصول الدعم لمستحقيه. لكن التجارب السابقة تؤكد أن التحول من الدعم العيني (السلع التموينية والخبز المدعم) إلى الدعم النقدي، يعني بالضرورة تحرير الأسعار وترك المواطن فريسة لتقلبات السوق.
فإذا حصل المواطن على مبلغ نقدي ثابت، بينما الأسعار ترتفع يوميًا بفعل التضخم وانهيار الجنيه، فإن القيمة الحقيقية لهذا الدعم ستتآكل بسرعة. وبذلك، يتحول "الدعم النقدي" إلى وسيلة لتقليص الإنفاق الحكومي على حساب المواطن البسيط.
قاعدة بيانات أم غطاء سياسي؟
تحدث مدبولي عن "إعداد قاعدة بيانات متكاملة" لضمان وصول الدعم لمستحقيه. لكن هذه العبارة ليست سوى غطاء سياسي لتقليص أعداد المستفيدين، عبر وضع شروط معقدة وقيود مشددة، تسمح بإخراج ملايين الأسر من قوائم الدعم بحجة أنهم "غير مستحقين".
لقد شهدنا هذا من قبل في قرارات استبعاد الشرائح الواسعة من بطاقات التموين بحجة ملكية سيارة أو وجود فاتورة كهرباء مرتفعة، رغم أن كثيرًا من هؤلاء لا ينتمون إلى الطبقة الغنية بأي حال.
الصندوق حاضر دائمًا
يحاول مدبولي تصوير برنامج صندوق النقد الدولي على أنه "برنامج وطني" وضعته الحكومة بنفسها. لكن الواقع يقول غير ذلك: معظم إجراءات البرنامج مفروضة بشكل مباشر أو غير مباشر من الصندوق، وعلى رأسها رفع الدعم، تعويم العملة، وخصخصة الشركات العامة.
تصريحات رئيس الوزراء بأن الدولة "لا يُملى عليها شيء" تتناقض مع الوقائع. فكل المراجعات الدورية لبرنامج الصندوق تقترن بقرارات قاسية يتحملها المواطن وحده، بينما تتحجج الحكومة بأنها "مجبرة" بفعل الالتزامات الدولية.
آثار اجتماعية مدمرة
رفع الدعم النقدي أو العيني، في ظل الأوضاع الحالية، يعني كارثة اجتماعية بكل المقاييس. أكثر من 60% من المصريين يعيشون تحت خط الفقر أو بالقرب منه، بحسب تقديرات مستقلة. هؤلاء يعتمدون بشكل رئيسي على دعم الخبز والسلع التموينية للبقاء.
التجارب العالمية في بلدان أخرى أثبتت أن رفع الدعم النقدي مع وجود تضخم مرتفع يؤدي إلى نتائج كارثية: انهيار مستويات المعيشة، انتشار الفقر المدقع، وزيادة معدلات الجريمة والاضطرابات الاجتماعية. فما بالك ببلد مثل مصر، يعاني أصلاً من فجوة طبقية هائلة وبطالة مرتفعة؟
الخبز.. خط أحمر مهدد
التاريخ المصري يؤكد أن المساس بالدعم، خصوصًا دعم الخبز، يفتح أبواب الغضب الشعبي. انتفاضة الخبز عام 1977 ما زالت ماثلة في الأذهان. واليوم، ورغم اختلاف الظروف، فإن أي محاولة لرفع الدعم تدريجيًا أو تحويله إلى نقدي ستعني ببساطة تهديد "لقمة العيش" المباشرة لملايين الأسر.
وبينما يحاول مدبولي تسويق الفكرة باعتبارها "إصلاحًا تدريجيًا"، فإن الشارع المصري يدرك أن الأمر لا يتعلق بإصلاح بل بتقليص عبء الدولة المالي على حساب المواطنين.
فشل السياسات الاقتصادية
الحكومة التي تبرر خطوة رفع الدعم بضرورة "تقليل الفاقد" هي ذاتها التي فشلت في ضبط الأسواق، وسمحت بالاحتكار، وتخلت عن الرقابة الفعالة. فإذا كانت الدولة عاجزة عن منع الجشع والفساد في منظومة التموين، فكيف يمكنها أن تحمي المواطنين حين يُتركون لمواجهة الأسعار وحدهم؟
الحقيقة أن الأزمة ليست في الدعم نفسه، بل في غياب رؤية اقتصادية تحقق العدالة الاجتماعية، وتعيد توزيع الثروة بشكل منصف. رفع الدعم في هذه الظروف ليس إصلاحًا، بل هروبًا من المسؤولية.
نحو إفقار متعمد
تصريحات مدبولي تكشف بوضوح أن الحكومة ماضية في مسار رفع الدعم نهائيًا، لكن تحت غطاء "التحول النقدي".
هذه الخطوة لن تحقق عدالة اجتماعية، ولن تقلل الفاقد كما يُروّج لها، بل ستؤدي إلى إفقار ملايين المصريين بشكل أسرع.
بدلاً من تحميل المواطن عبء السياسات الفاشلة، كان الأجدر بالحكومة أن تبحث عن حلول بديلة: مكافحة الفساد، إعادة النظر في أولويات الإنفاق، الاستثمار في الإنتاج المحلي بدلًا من الاستدانة المستمرة.
لكنها اختارت الطريق الأسهل بالنسبة لها، والأكثر قسوة على الشعب: رفع الدعم وترك المواطن وحده يواجه مصيره. وهذا يعني أن خطة مدبولي ليست سوى إعلان صريح بأن الدولة ترفع يدها تدريجيًا عن مسؤولياتها الاجتماعية، ليتحمل الفقراء وحدهم ثمن الأزمات.