يشهد القطاع العقاري واحدة من أعنف أزماته منذ عقود، في ظل ارتباك غير مسبوق وصراع محتدم بين كبار المطورين والسماسرة، وسط مخاوف متصاعدة من انهيار السوق العقاري وتفجر "فقاعة تسعير" طال انتظارها.

فعلى الرغم من أن العقار ظل يُوصف لعقود بأنه "الملاذ الآمن" لمدخرات المصريين، فإن المؤشرات الأخيرة تكشف عن مرحلة تراجع هيكلي، يهدد بفقدان القطاع مكانته كأحد أهم محركات الاقتصاد، بعدما اجتمع تراجع المبيعات، وارتفاع الإلغاءات، مع تشدد البنوك في التمويل، وزيادة الرسوم الحكومية، وتضارب مصالح اللاعبين الكبار والصغار على السواء.

 

صراع الكبار.. والضحايا الصغار

برزت في الأسابيع الماضية ملاسنات علنية بين كبار المطورين العقاريين، تكشف عمق الأزمة واحتدام المنافسة على جذب العملاء. فالكبار يصرّون على التمسك بالأسعار القياسية للوحدات، في حين يلجأ صغار المطورين إلى تخفيضات حادة تصل إلى 40% عند السداد النقدي، في محاولة للبقاء في السوق.

المفارقة أن المطورين الكبار، الذين كانوا يشترطون مقدمات حجز مرتفعة تصل إلى 50% من قيمة الوحدة، أصبحوا يقدّمون تسهيلات غير مسبوقة، تصل أحيانًا إلى "صفر مقدم"، مع مدّ فترات السداد إلى 12 عامًا، وهو ما يعكس أزمة سيولة خانقة ورغبة محمومة في الحفاظ على العملاء.

 

بورصة العقارات تفقد بريقها

لم يتوقف تأثير الأزمة عند السوق المباشرة، بل امتد إلى البورصة المصرية. فقد تراجع أداء أسهم شركات العقار، رغم أنها كانت تاريخيًا من أبرز قطاعات سوق المال. وأظهر أداء شركات كبرى مثل "طلعت مصطفى" تراجعًا في العوائد، إذ اضطرت إلى توزيع أرباح هزيلة لا تتجاوز 30 قرشًا للسهم، بل وبالتقسيط، حفاظًا على السيولة لمواصلة مشروعاتها.

تقول خبيرة الاستثمار وسوق المال حنان رمسيس إن القطاع العقاري أصبح "كالرجل العجوز المريض" الذي يسير ببطء شديد، مشيرة إلى أن المطورين قيّموا أسعار وحداتهم على أساس دولار بـ100 جنيه خلال 2023 و2024، في وقت تراجع فيه سعر الصرف لاحقًا، ما أدى إلى تفجر "فقاعة تسعير" انهارت أمامها قدرة المشترين.

 

السماسرة في قفص الاتهام

لم يقتصر الصراع على المطورين، بل امتد إلى السماسرة (شركات التسويق العقاري) الذين يتهمهم الكبار بتضخيم الأسعار عبر عمولات ضخمة تصل إلى 10% من قيمة الوحدة، ما يرفع التكلفة النهائية على المستهلكين.

ورغم ذلك، يضغط السماسرة على المطورين لتقديم مزيد من التسهيلات، حتى يتمكنوا من إنعاش المبيعات. وفي المقابل، يتلاعبون بالمشترين بوعود متكررة بأن الأسعار مرشحة للارتفاع، ما يفتح الباب أمام المضاربة وإعادة البيع السريع لتحقيق مكاسب "أوفر برايس".

 

الحكومة بين الاتهام والانتظار

تتعرض الحكومة لانتقادات لاذعة من المطورين والمستثمرين على حد سواء. فبينما يشتكي المطورون من فرض "إتاوات سيادية" ورسوم مفاجئة وخصم أراض سبق تخصيصها لهم، يطالبونها بالتدخل العاجل لتنظيم السوق.

وفي المقابل، تواصل الحكومة تحصيل رسوم جديدة، كان آخرها فرض أكواد عقارية لتسهيل التسجيل والبيع، وهو ما جذب استثمارات نحو العقارات القديمة ووسط العاصمة، على حساب المشروعات السكنية الجديدة.

 

أصوات من الداخل: "تلبيس الطواقي" وحساب الضمان

أطلق رجال أعمال بارزون تصريحات تكشف عمق الأزمة. فقد حذر نجيب ساويرس من سوء الأوضاع في السوق العقاري، فيما دعا أيمن عامر، المدير التنفيذي لشركة "سوديك"، إلى اعتماد نظام "حساب ضمان" لكل مشروع عقاري، بحيث لا تُستخدم أموال العملاء إلا في الإنفاق المباشر على المشروع، منعًا لما وصفه بـ"تلبيس الطواقي"، أي تدوير الأموال بين المشروعات لتعويض العجز.

 

من "فقاعة التسعير" إلى "فقاعة الطلب"

يرى خبراء أن الأزمة الحالية نتاج طبيعي لموجة مضاربة غير مسبوقة أعقبت انهيار الجنيه في مارس 2022، حين تدافع المصريون نحو شراء العقارات لحماية مدخراتهم، ما أدى إلى قفزة جنونية في الأسعار.

اليوم، يقف السوق العقاري على مفترق طرق. فبين "فقاعة التسعير" التي فقدت زخمها، و"فقاعة الطلب" التي تبخرت، وصراع أباطرة العقارات مع السماسرة، وقيود التمويل البنكي، يجد المشترون أنفسهم محاصرين في سوق فقدت القدرة على تقديم عوائد حقيقية أو فرص استثمارية آمنة.