في ظل الأزمة الاقتصادية التي يعيشها الاقتصاد المصري، وجّه صندوق النقد الدولي رسالة واضحة وصارمة إلى حكومة مصطفى مدبولي تفيد بأن الإصلاحات التي تم تنفيذها حتى الآن ليست كافية، ويجب "التعمّق" فيها لضمان استقرار مالي واقتصادي يدوم، ولحماية المواطنين من تدخلات مؤقتة خرجت من أطرها.
ما قاله صندوق النقد
في تقارير الصندوق الأخيرة، بعد المراجعة الرابعة لبرنامج القرض الممتد الذي تبلغ قيمته 8 مليارات دولار، أشار الصندوق إلى أن مصر حققت بعض التقدم في الإصلاحات الكلية: خفض بعض الاختناقات المالية، تحسين السيولة، انتظام نسبي في موارد العملة الأجنبية، والتحكم النسبي في التضخم.
لكنّ الصندوق شدد على أن "نموذج الدولة المسيطرة" لا يزال يفرض نفسه بشدة: شركات مملوكة للدولة أو الجيش تتمتع بمعاملة تفضيلية من حيث الإعفاءات الضريبية، الحصول على الأراضي، العمالة الرخيصة، وأحيانًا مستوى أقل من الشفافية المالية مقارنة بالقطاع الخاص.
كما دعا الصندوق إلى توسيع القاعدة الضريبية، والحدّ من الدعم غير الموجّه أو الواسع، وضبط الإنفاق العام، خصّيصًا في القطاعات التي تحمل مخاطر على المالية العامة مثل الطاقة والإسكان والمشروعات الكبرى التي تقع خارج الميزانية.
خناق حكومة مدبولي للشعب ليس كافيا
من جانبها، أعلنت حكومة مدبولي عن رفع تدريجي لأسعار الوقود والكهرباء، خفض للدعم في بعض القطاعات، وسحب بعض التزامات الميزانية الطارئة إلى برامج رفاهية اجتماعية.
لكن النقد الموجه إليها يقول إن هذه الخطوات كانت:
- مبكرة جداً في تحمّلها من قبل المواطن العادي، في ظل دخل ثابت أو منخفض، وتسارع في التضخم الذي يجعل أبسط السلع باهظة.
- غير متوازنة من حيث العدالة الاجتماعية: فبينما يتحمّل المواطن الفقير عبء رفع الدعم أو ارتفاع أسعار الوقود، تستمر مؤسسات الدولة والكيانات المرتبطة بالجيش في التمتع بإعفاءات وامتيازات دون مساءلة كافية.
- بطء تنفيذ بعض الإصلاحات الهيكلية التي وعدت بها الحكومة: مثل خصخصة الشركات المملوكة للدولة، وإخضاع الكيانات العامة للرقابة المالية، وإصلاحات تنظيمية واسعة تدعم القطاع الخاص وتقلل من الريع.
“بيع المواطن من أجل الدولارات”
هذا التعبير يجسد شعوراً متزايداً لدى قطاعات واسعة من الجمهور بأن الحكومة «تبيع» حقوق المواطنين الأساسية – المياه، الطاقة، الدعم، الخدمات – مقابل الحصول على تمويلات من الخارج، سواء من صندوق النقد أو من مستثمرين خليجيين، أو عبر خصخصة أو اتفاقيات استثمارية قد تُلغي البُعد الوطني للمرافق الأساسية.
فرفع الدعم يعني أن المواطن الذي كان يعتمد على دعم الدولة في فواتير الكهرباء أو المواصلات الآن عليه أن يدفع أسعار السوق، في ظروف يفتقر فيها إلى دخله الكافي.
خصخصة بعض الأصول أو إسنادها لمستثمرين خارجيين يُثير القلق من فقدان السيطرة على الأراضي والمرافق الحيوية، وبأن الربح يتحوّل نحو أصحاب رأس المال وليس نحو الشعب.
السياسات المالية الضاغطة تُرهق الطبقة الوسطى والفقراء، في حين تبقى القدرة على المناورة ضعيفة أمام فروقات الأسعار، التضخم، وغياب بدائل اقتصادية واضحة.
لماذا الإصلاحات العميقة ضرورية – وليس فقط الحزمة الظاهرية؟
صندوق النقد يؤكد أن الاستقرار الجزئي غير كافٍ:
- التحديات الخارجية – انخفاض الإيرادات من قناة السويس، صدمات اقتصادية إقليمية وجيوسياسية – تجعل من أمراض المالية العامة مثل العجز، والديون الخارجية، ونقص العملة الأجنبية أموراً عالية الخطورة.
- النمو الاقتصادي لا يتسع إذا بقيت الدولة تتحكّم بمعظم الموارد وتُفضل كياناتها على الأسواق الحرة والقطاع الخاص في خلق فرص العمل. مع تزايد عدد الشباب، سيصبح من غير المجدي أن تعتمد الدولة فقط على مشروعات كبرى أو استثمارات خارج البلاد.
- العدالة الاجتماعية تتطلب أن تكون الإصلاحات تراعي الفئات الأكثر ضعفاً، وأن تُصاحبها سياسات حماية اجتماعية، ليس فقط رفعاً مؤلمًا للضرائب أو تقليص دعم.
الخلاصة: إصلاح أم بيع؟
حكومة مدبولي أمام مفترق صعب: إما أن تستجيب لمطالب صندوق النقد بإصلاحات عميقة تمسّ جوهر السيطرة المفرطة للدولة على الاقتصاد، وتعيد توزيع الأعباء بطريقة عادلة، وإما أن تستمر في ما يشبه "بيع" الوطن – موارد، دعم، ملكية – لقاء دفعات مالية مؤقتة، تزيد التبعية، وتعزز الفقر، وتعمّق التفاوتات.
المواطن اليوم لا يريد وعودًا، بل يريد خدمات؛ لا يريد موازنة تتجمّل تحت عناوين مشروعات كبرى، بل شفافية؛ لا يريد أن يُحمّل وحده تبعات الإصلاح، بل شراكة وضميرًا في السياسات الاقتصادية.
إذا استمر الأمر بهذا المنوال، فإن الإصلاحات التي لا تلمس حياة الناس بشكل حقيقي ستفقد مصداقيتها، وستتحول إلى فواتير تُدفع من جيوب الفقراء، بينما تتحول عائداتها إلى خزائن المؤسسات الكبرى والأصول التي بيعت تحت ذريعة الدعم أو الانفتاح الاقتصادي.