يعيش السوق المصري حالة من الارتباك المتواصل بفعل القرارات الحكومية المتلاحقة التي لا تراعي التوازن بين حماية الصناعة المحلية وضبط الأسعار في الأسواق.
أحدث هذه القرارات تمثل في فرض رسوم وقائية جديدة على واردات خامات الحديد، وخاصة "الصاج"، بنسبة تصل إلى 16.2%، وهو ما انعكس فورًا على توقعات بارتفاع أسعار الأجهزة المنزلية بنسبة تتراوح بين 20 و25%، وفق تصريحات محمد المهندس، رئيس غرفة الصناعات الهندسية.
ويكشف هذا المشهد عن معضلة اقتصادية مزدوجة: حماية غير مدروسة للإنتاج المحلي، وفي المقابل تحميل المستهلك أعباء جديدة في ظل أزمة معيشية طاحنة.
الصاج في قلب أزمة الأسعار
يُعتبر "الصاج" أحد أهم المكونات الأساسية في صناعة الأجهزة المنزلية، إذ يدخل في تصنيع الهياكل المعدنية للثلاجات والغسالات والبوتاجازات والسخانات.
ومعظم المصانع المصرية تعتمد بشكل كبير على استيراد هذا الخام لعدم توافره محليًا بالكميات والجودة المطلوبة.
وبمجرد فرض الحكومة رسومًا وقائية مرتفعة على استيراده، ارتفعت تكلفة المواد الخام بشكل ملحوظ، وهو ما دفع المصانع إلى التحذير من زيادة أسعار منتجاتها النهائية في السوق المحلي.
هذا الارتفاع المرتقب سيصيب قطاع الأجهزة المنزلية الذي يعد من السلع الأساسية لكل أسرة مصرية، مما يضيف عبئًا جديدًا على المستهلكين الذين يعانون بالفعل من موجات تضخم متلاحقة.
الصناعة المحلية بين الحماية والشلل
رغم أن الهدف المعلن من فرض رسوم الحماية هو دعم الصناعة المحلية وتشجيع المنتجين المحليين على زيادة الإنتاج، إلا أن الواقع يقول عكس ذلك.
فالمصانع المحلية التي تصنع الأجهزة الكهربائية لا تملك بدائل حقيقية لتغطية احتياجاتها من الصاج والحديد المسطح، وبالتالي فإن الرسوم الجديدة لم تحمِ الصناعة بقدر ما زادت تكلفتها.
في المقابل، الشركات المنتجة للحديد محليًا لا توفر الكميات الكافية من هذه الخامات، ولا تعرض أسعارًا منافسة، وهو ما يجعل المصانع في مأزق مزدوج: ارتفاع تكلفة الاستيراد، وعدم وجود بديل محلي فعّال.
هذه الازدواجية تكشف عن غياب التخطيط الحكومي في إدارة ملفات الصناعة والتجارة، حيث تتحول القرارات إلى عبء إضافي بدلًا من أن تكون محفزًا للإنتاج.
المستهلك يدفع الثمن
في النهاية، يظل المستهلك هو الحلقة الأضعف في سلسلة القرارات المرتبكة، إذ يدفع تكلفة كل إجراء حكومي يفتقر إلى الدراسة.
ارتفاع أسعار الأجهزة المنزلية بنسبة تصل إلى 25% يعني أن أسرة تبحث عن شراء ثلاجة أو غسالة ستجد نفسها أمام أسعار مضاعفة مقارنة بالعام الماضي، وهو ما يجعل هذه الأجهزة الأساسية بعيدة عن متناول شرائح واسعة من المجتمع.
ولا يقف الأمر عند حد الأجهزة المنزلية فقط، فارتفاع أسعار الصاج والحديد سينعكس أيضًا على قطاعات أخرى مثل العقارات والسيارات والأثاث المعدني.
ومع استمرار الأجور على حالها، وعدم قدرة الأسر على مجاراة هذه الزيادات، تتفاقم الأزمة الاجتماعية، ويزداد الاحتقان الشعبي تجاه السياسات الحكومية.
غياب الرؤية الاقتصادية
القرار الأخير يعكس بوضوح غياب الرؤية الاقتصادية لدى الحكومة التي تتخذ إجراءات متناقضة دون دراسة شاملة لآثارها.
ففي الوقت الذي تتحدث فيه عن تشجيع الاستثمار وتوطين الصناعة، تتخذ قرارات ترفع تكلفة الإنتاج وتدفع الشركات إلى التوقف أو تقليص طاقتها الإنتاجية.
ورغم أن رسوم الحماية تُستخدم عالميًا لحماية الصناعات الناشئة، إلا أن تطبيقها في مصر جاء بشكل عشوائي، دون توفير بدائل محلية حقيقية، ودون دعم للمصانع في مواجهة تكاليف الإنتاج المتصاعدة.
هذه السياسات المرتبكة تضعف ثقة المستثمرين والمستهلكين على السواء، وتؤدي إلى حلقة مفرغة من التضخم والركود.
وتكشف أزمة رسوم الحماية على الحديد والصاج عن عمق التخبط الحكومي في إدارة ملف الاقتصاد، حيث تتحول القرارات التي يفترض أن تدعم الصناعة إلى سبب مباشر في زيادة الأسعار وإرهاق المواطن.
وإذا لم تُعِد الحكومة النظر في سياساتها التجارية والصناعية، وتضع خططًا متكاملة توفر بدائل محلية بأسعار تنافسية، فإن المواطن سيظل الضحية الأولى لكل قرار غير مدروس.
وفي ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، يصبح من الضروري الانتقال من سياسة المسكنات والقرارات الجزئية إلى استراتيجية شاملة تحقق التوازن بين حماية الصناعة ومصالح المستهلك.