أحالت نيابة الأموال العامة العليا في مصر، السبت، ثلاثة من رجال الأعمال ــ اثنان كويتيان والثالث مصري يشغل موقعًا سياسيًا ــ إلى المحاكمة الجنائية، في واحدة من أخطر القضايا المالية التي تشهدها الساحة القضائية المصرية منذ سنوات.
القضية تحمل الرقم 716 لسنة 2025 كلي وسط القاهرة، و45 لسنة 2025 جنايات أموال عامة عليا، وتشير أوراقها إلى استيلاء المتهمين على نحو أربعة مليارات جنيه مصري (ما يعادل 85 مليون دولار) من أموال الشيخ محمد بن سحيم آل ثاني، رجل الأعمال القطري البارز والمساهم الرئيس في شركة حديد المصريين.
المتهمون: شبكة متعددة الجنسيات
قائمة المتهمين كشفت عن أسماء بارزة في عالم المال والأعمال:
- عبد الله أحمد شاهين يوسف شاهين (54 عامًا، كويتي الجنسية، هارب)، رئيس الاتحاد الكويتي لكرة القدم سابقًا.
- عصام قاسم حبيب أبل (58 عامًا، كويتي الجنسية، هارب)، الرئيس التنفيذي لشركة استيت القابضة في قطر وعضو مجلس إدارة في شركات إقليمية.
- عمر عادل المغاوري المصيلحي (49 عامًا، مصري الجنسية، محبوس على ذمة القضية)، رجل أعمال وعضو حزب مستقبل وطن وعضو مجلس إدارة شركة إنفو ستريم.
هذه التركيبة، التي تجمع بين رجال أعمال من الخليج وشخصية سياسية مصرية، أعطت القضية أبعادًا سياسية واستثمارية تتجاوز مجرد شبهة التلاعب المالي.
طرق التزوير: تحويلات وأسهم على الورق
التحقيقات كشفت أن المتهمين اشتركوا مع آخر مجهول في عمليات تزوير واسعة النطاق.
- جرى اصطناع أوامر تحويلات مصرفية مزورة منسوبة لبنك عودة – مصر، بقيم تجاوزت 1.2 مليار جنيه في عملية واحدة، و295 مليون جنيه في أخرى، و279 مليون جنيه في ثالثة.
- كما لجأوا إلى تزوير عقود بيع أسهم في شركات دولية مثل غرين دايموند كابيتال (جزر الكايمان)، ومحاضر جمعيات عمومية لشركات قطرية، لخلق التزامات مالية وهمية على المجني عليه.
- الأخطر أنهم استغلوا أوراقًا موقعة على بياض من الشيخ محمد بن سحيم، وملأوها ببيانات كاذبة لبيع أكثر من 2.3 مليون سهم من شركة استيت القابضة بقيمة تجاوزت 732 مليون جنيه، وقدموا تلك العقود لشركات السمسرة لنقل الأسهم.
النتيجة: الاستيلاء على ما يقارب 2.7 مليار جنيه إضافية من حسابات الشركات التابعة للشيخ في بنك عودة.
شهادة أحمد أبو هشيمة: خيط يكشف المستور
من أبرز ما ورد في أوراق القضية شهادة رجل الأعمال أحمد أبو هشيمة، الرئيس السابق لمجموعة حديد المصريين.
- في عام 2016، زاره المتهمان الكويتيان وطلبا منه قطع التواصل مع الشيخ بحجة مشكلات له في قطر.
- في 2018، خلال جمعية عمومية لشركة يونايتد ستيل، فوجئ بمحاولة إدراج بند يفيد ببيع 25% من الأسهم، وهو ما رفضه مؤكدًا أن البيع لم يحدث.
- في 2021، أبلغه وكيل الشيخ أن الأخير لم يحصل على قيمة بيع أسهمه لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية، رغم أن الصفقة بلغت 3.5 مليارات جنيه، وهو ما أكد وجود تلاعب خطير.
أبو هشيمة أوضح أن العقود التي استند إليها المتهمون كانت مزورة بالكامل، وأن الشيخ لم يبع أي أسهم لهم ولم يحصل على أي مقابل.
انعكاسات اقتصادية وسياسية
القضية لا تقف عند حد الاستيلاء المالي، بل تمتد لتلقي بظلالها على مناخ الاستثمار في مصر.
- تورط رجل أعمال مصري منتمٍ لحزب سياسي بارز، يثير تساؤلات حول مدى نزاهة البيئة الداخلية.
- استهداف مستثمر قطري بحجم الشيخ محمد بن سحيم يفتح الباب أمام تساؤلات حول حماية الاستثمارات الأجنبية في مصر، خاصة الخليجية منها.
- حجم المبالغ محل النزاع (نحو 4 مليارات جنيه) يجعل القضية الأكبر في مجال التلاعب المالي المرتبط بمستثمر أجنبي في السنوات الأخيرة.
بين القضاء والاستثمار: اختبار ثقة
مع إحالة الملف إلى محكمة الجنايات، يترقب المتابعون ما ستكشفه الجلسات المقبلة من تفاصيل، وما إذا كانت ستفتح الباب لمساءلات سياسية واقتصادية أوسع.
فالقضية لا تعكس فقط ثغرات قانونية ورقابية، بل تمس مباشرة ثقة المستثمرين الأجانب، وتطرح تساؤلًا جوهريًا:
هل يستطيع النظام القضائي والرقابي في مصر توفير الحماية الكاملة لرؤوس الأموال الأجنبية، أم أن مثل هذه الوقائع ستظل تهدد بيئة الأعمال؟
استثمار محفوف بالمخاطر
تكشف هذه القضية بوضوح عن حجم التحديات التي تعترض طريق الاستثمار الأجنبي في مصر. فبدلاً من أن تكون بيئة جاذبة لرؤوس الأموال، تتحول في كثير من الأحيان إلى ساحة نزاعات، يتداخل فيها النفوذ السياسي بالمصالح الاقتصادية، وتُستغل فيها الثغرات القانونية والرقابية لنهب أموال المستثمرين. وما جرى مع الشيخ محمد بن سحيم ليس حالة معزولة، بل حلقة في سلسلة طويلة من المشكلات التي تعانيها السوق المصرية: من غياب الشفافية، إلى ضعف الحماية القانونية، إلى تفشي الفساد والمحسوبية.
وبينما تحتاج مصر اليوم إلى كل استثمار يدعم اقتصادها المتعثر، فإن مثل هذه القضايا لا تضرب فقط الثقة في النظام القضائي، بل تهز أيضاً سمعة البلاد كمقصد آمن لرؤوس الأموال، وتجعل من شعار "مصر أرض الفرص" مجرد عبارة جوفاء ما لم تُعالج جذور الأزمة وتُسترد ثقة المستثمرين.