بينما تكثف أبواق النظام حملاتها الإعلامية مؤخرًا ضد "إملاءات صندوق النقد الدولي"، محذّرة مما تسميه "وصاية أجنبية على القرار الاقتصادي"، تتسرب من كواليس الحكومة مؤشرات واضحة على أن التعويم المرن للجنيه بات وشيكًا، وأن الدعم في طريقه للإلغاء الكامل.
المفارقة أن الخطاب العلني يرفض تعليمات الصندوق، لكن الواقع يقول إن مصر تسير بدقة على طريق تنفيذ شروطه، في ظل أزمة عملة أجنبية متفاقمة، وضغوط ديون خارجية تجاوزت 165 مليار دولار بنهاية 2024.
التعويمات السابقة: أرقام وحقائق
لفهم الوضع الراهن، لا بد من العودة إلى محطات التعويم السابقة:
- نوفمبر 2016: أقدمت الحكومة على أول تعويم كامل للجنيه ضمن اتفاق قرض مع الصندوق بقيمة 12 مليار دولار.
وقتها قفز الدولار من 8.8 جنيه إلى نحو 18 جنيهًا خلال أسابيع، وارتفع التضخم إلى أكثر من 33% في يوليو 2017. - مارس 2022: تراجع الجنيه مجددًا من 15.6 إلى 18.2 للدولار، في ظل صدمة أسعار الغذاء والطاقة بعد حرب أوكرانيا.
- أكتوبر 2022: شهدت مصر التعويم الثاني خلال العام، ليقفز الدولار إلى 24 جنيهًا.
- يناير 2023: التعويم الثالث رفع سعر الصرف إلى 30-31 جنيهًا، وهو ما تبعه موجة غلاء غير مسبوقة وصلت بالتضخم إلى 38% في سبتمبر 2023.
واليوم، بعد مرور نحو عامين على آخر تعويم، يتداول الدولار في السوق الموازية عند مستويات تفوق 65 جنيهًا، ما يفرض ضغوطًا هائلة لإقرار تعويم مرن كامل يضمن توحيد سعر الصرف، كما يطالب الصندوق منذ سنوات.
حملات إعلامية مزدوجة
في الأسابيع الأخيرة، ركزت برامج التوك شو والصحف الموالية للنظام على التنديد بـ"تدخل صندوق النقد في السياسات الاقتصادية المصرية"، بل ذهب بعضها إلى القول إن مصر لن "تفرط في استقلال قرارها الوطني".
لكن هذه الحملات تبدو أقرب إلى مناورات تفاوضية للضغط على الصندوق لتليين شروطه، خاصة فيما يتعلق بسرعة تنفيذ الإصلاحات أو حجم الدفعات المالية المقبلة.
في الواقع، تؤكد بيانات وزارة المالية والتصريحات الرسمية أن الحكومة تمضي في تنفيذ كل ما يطلبه الصندوق: من توسيع الضرائب غير المباشرة، إلى خفض الدعم تدريجيًا، وصولًا إلى طرح شركات مملوكة للدولة والجيش للبيع.
الدعم على خط النهاية
وفقًا لمشروع الموازنة للعام المالي 2025/2026، تقلص بند دعم الوقود إلى أقل من 10 مليارات جنيه، مقارنة بـ145 مليار جنيه في 2013.
كما جرى رفع أسعار الكهرباء والغاز المنزلي في أكثر من خمس مراحل منذ 2014، كان آخرها في يوليو 2024.
ويؤكد الخبير الاقتصادي هاني توفيق أن "الدعم كما عرفناه انتهى فعليًا، وما تبقى مجرد مسكنات في بطاقات التموين ستتلاشى مع أي تعويم جديد"، مضيفًا أن الحكومة "تنفذ وصفة الصندوق بحذافيرها رغم نفيها المتكرر".
خبراء: النظام يرضخ للصندوق رغم الضجيج
ترى الدكتورة يمنى الحماقي، أستاذ الاقتصاد بجامعة عين شمس، أن "التعويم المقبل سيضاعف معاناة الفقراء والطبقة الوسطى"، مشيرة إلى أن "غياب شبكة حماية اجتماعية فعالة يجعل أي إصلاح نقدي عبئًا على المواطنين لا على الدولة".
بينما يؤكد الدكتور زياد بهاء الدين، نائب رئيس الوزراء الأسبق، أن "الحكومة فقدت فرصة التدرج، فصارت كل الإجراءات تأتي دفعة واحدة بضغط من الدائنين"، معتبرًا أن "الاعتماد المفرط على الصندوق يكرس التبعية الاقتصادية".
أما المحلل المالي ممدوح الولي، الرئيس الأسبق لهيئة الأهرام، فيحذر من أن "التعويم المرن قد لا يحقق استقرارًا إذا لم يصاحبه تحرير حقيقي للاقتصاد وإصلاح لمناخ الاستثمار".
وأخيرا فالخطاب الإعلامي الرافض لإملاءات الصندوق ليس سوى ستار دخاني لإخفاء الاستسلام الكامل لشروطه.
فالتعويم قادم لا محالة، والدعم انتهى بالفعل، وما يتبقى هو المزيد من الضرائب والرسوم التي ستثقل كاهل المواطنين.
وبينما يردد النظام أن هذه "إصلاحات ضرورية"، يرى خبراء أن ما يحدث هو تكرار لوصفات فشلت في السابق وأدت فقط إلى إفقار المصريين وتعميق أزمة العدالة الاجتماعية.