مرة أخرى، يجد المصريون أنفسهم على موعد مع جولة جديدة من وصفات صندوق النقد الدولي التي أثبتت التجربة أنها لا تحمل لهم سوى الغلاء والجباية.

ففي تصريحات حديثة، أكدت المتحدثة باسم الصندوق، جولي كوزاك، أن الوقت قد حان لأن تنفذ مصر "إصلاحات أعمق" لإطلاق إمكانات النمو الاقتصادي. لكن خلف هذه العبارات البراقة، تتجدد المخاوف من مزيد من الضغوط على الفقراء والطبقة الوسطى، خصوصًا مع تراكم الديون وغياب رؤية اقتصادية وطنية مستقلة.

 

مراجعات مؤجلة وتمويل مشروط

كوزاك أوضحت في إحاطة صحفية يوم الخميس أن الصندوق سيرسل بعثة خبراء إلى مصر خريف هذا العام لإجراء المراجعتين الخامسة والسادسة المشتركتين لبرنامج التمويل، والتي كان قد أُعلن عنهما في يوليو الماضي.

اللافت أنها لم تحدد موعدًا دقيقًا، وهو ما يعكس تردد الصندوق في المضي قُدمًا دون أن تلتزم الحكومة المصرية بمزيد من "الإصلاحات الهيكلية".

وكانت مصر قد حصلت على مراجعة رابعة في مارس 2025، أتاح لها صرف 1.2 مليار دولار، ضمن برنامج تسهيل تمويلي بقيمة 8 مليارات دولار تم إقراره في مارس 2024 ويمتد لمدة 46 شهرًا.

وحتى الآن، دفعت المؤسسة الدولية نحو 3.5 مليار دولار لمصر، وفقًا لحسابات وكالة رويترز.

 

أرقام الأزمة

تعود علاقة مصر المتوترة بالصندوق إلى أزمة نقص العملة الأجنبية التي تفاقمت منذ 2022، لتبلغ ذروتها مع تضخم وصل إلى 38% في سبتمبر 2023، وهو أعلى معدل في تاريخ البلاد الحديث.

ورغم وعود الحكومة بتحقيق انفراجة، استمرت أزمة الدولار وتراجعت قيمة الجنيه عدة مرات، ما أدى إلى ارتفاع غير مسبوق في أسعار السلع الأساسية وتآكل الدخول.

الحديث المتكرر عن "تحسن معدلات النمو والاستثمار"، كما قال نائب وزير المالية أحمد كجوك في مقابلة صحفية نهاية أغسطس، يتناقض مع الواقع الذي يعيشه ملايين المصريين.

فالمواطن البسيط لا يلمس سوى ارتفاع فواتير الكهرباء والغاز والمواصلات والدواء، بينما لا ينعكس أي من "التحفيزات" التي تتحدث عنها الحكومة على معيشته اليومية.

 

الصندوق يضغط على دور الدولة

من بين أبرز ملاحظات صندوق النقد في تقاريره الأخيرة، دعوته مصر إلى تقليص ملكية الدولة والجيش في الاقتصاد وفتح المجال أمام القطاع الخاص.

كوزاك نفسها أكدت في يوليو الماضي أن التقدم الحالي غير كافٍ، وأن المطلوب هو "إصلاحات أعمق، خصوصًا في ملف دور الدولة".

لكن هذه التوصيات، رغم ظاهرها الإصلاحي، تصطدم بواقع أن الدولة توسعت في السنوات الأخيرة في السيطرة على قطاعات حيوية مثل الطاقة والبناء والعقارات، وهو ما يعمق احتكار السلطة والثروة، ويزيد من تهميش رجال الأعمال المستقلين. وفي النهاية، لا يدفع الثمن سوى المواطن، الذي يجد نفسه بين مطرقة الخصخصة وسندان الجباية.

 

المواطن بين الفقر والجباية

العودة المتكررة لصندوق النقد تعني عمليًا أن المصريين سيدفعون مجددًا ثمن الإصلاحات.

فخفض الدعم وتحرير الأسعار وزيادة الرسوم هي الخطوات التقليدية التي يتبعها الصندوق في كل برامجه.

ومن المتوقع أن تتجه الحكومة خلال الأشهر المقبلة إلى فرض المزيد من الضرائب غير المباشرة، ورفع أسعار الخدمات العامة، بحجة سد عجز الموازنة.

المفارقة أن هذه الإجراءات تتم بينما تستمر الدولة في الإنفاق ببذخ على العاصمة الإدارية ومشاريع كبرى لا تخدم المواطن العادي.

وهو ما يثير تساؤلات حول أولويات الحكومة، وكيف يمكن التوفيق بين الحديث عن "حماية الفقراء" وتطبيق سياسات تُفقِرهم أكثر.

وأخيرا فتصريحات صندوق النقد ليست مجرد ملاحظات فنية، بل هي خارطة طريق جديدة لإفقار المصريين ما لم يتم مواجهتها برؤية بديلة تضع العدالة الاجتماعية في قلب السياسات الاقتصادية. وبينما تصر الحكومة على أن "الأوضاع تتحسن"،

كما يقول مسؤولوها، يدرك المواطن أن الواقع مختلف: ديون متصاعدة، جباية متزايدة، وأسعار تلتهم الدخول.

وفي ظل هذا النهج، يبدو أن الاستقرار الاقتصادي الذي يتحدث عنه الصندوق لن يتحقق، بل سيتحول إلى مزيد من عدم الاستقرار الاجتماعي.