منذ اللحظة الأولى لتوليه السلطة، ارتبط اسم عبد الفتاح السيسي بسلسلة من الانتهاكات الدستورية، جعلت المصريين يعيشون في دولة يصفها الكاتب والصحفي الكبير أنور الهواري بأنها لم تعد دولة مواطنين أحرار، بل دولة سلطوية تتحكم في مصائر الناس وتُخضعهم لمعادلة قهرية معاكسة لكل قيم الديمقراطية.
وفي مقاله الأخير، أكد الهواري أن السيسي لم يكتف بانتهاك النصوص الدستورية في كل محطة، بل بدأ عهده بحنث اليمين الذي أقسمه أمام الشهيد الرئيس محمد مرسي، حين انقلب على الشرعية، ليُدشن بذلك مساراً من التلاعب بالدستور، امتد من تمديد مدد الحكم، إلى السيطرة على القضاء، وانتهاءً بتعطيل جوهر الحقوق والحريات.
 

السيسي وانتهاك الدستور: من حنث اليمين إلى التمديد الأبدي
يُجمع خبراء القانون الدستوري على أن أخطر ما قام به السيسي منذ 2013 هو تحويل الدستور إلى مجرد ورقة شكلية، تُعدل متى شاءت السلطة وتُفسر بما يخدم بقاءها. البداية كانت مع حنث اليمين أمام مرسي، حيث أدى القسم على حماية الدولة ورئيسها المنتخب، قبل أن ينقلب عليه في مشهد وصفه الهواري بأنه أول انتهاك فاضح للعقد الدستوري. ثم توالت الانتهاكات: تعديلات 2019 التي مددت فترة الرئاسة وفتحت الباب أمام البقاء حتى 2030، إضعاف استقلال القضاء عبر تبعية التعيينات مباشرة للرئيس، وإلغاء أي ضمانات حقيقية لحرية التعبير والتنظيم. كل ذلك جعل الدستور أداة في يد الحاكم لا في يد الشعب، على عكس ما يفترض في أي نظام ديمقراطي.
 

معادلة مقلوبة: الشعب في خدمة الدولة والحكام
يشدد الهواري على أن المعضلة ليست في نصوص الدستور فقط، بل في المعادلة المقلوبة التي رسخها السيسي ومن سبقه من الحكام العسكريين: الشعوب في خدمة الدولة، ثم الدولة في خدمة الحكام، بينما الحكام يعملون في خدمة قوى المال والسياسة الدولية. هذه السلسلة المريضة جعلت المواطن مجرد تابع بلا إرادة، والدولة مجرد أداة لقهره وتوظيفه لخدمة من هم في القمة. ويؤكد الهواري أن إسرائيل – على وحشيتها – تظل أوضح مثال على عكس هذه المعادلة، إذ حكامها مقيدون بإرادة ناخبيهم، بينما في مصر والعالم العربي تتحول الوطنية إلى أناشيد وأغانٍ جوفاء، تغطي قهراً ممنهجاً وإفقاراً متواصلاً.
 

مائة عام من النضال… ومصر تراوح مكانها
في واحدة من أكثر مقاطع مقاله عمقاً، يذكّر الهواري بأن شعوب المنطقة قبل قرن كامل كانت تتوثب نحو الحرية والديمقراطية والعدالة، فشهد مطلع القرن العشرين ثورة إيران الدستورية، ثم التجربة التركية، ثم مصر التي ناضلت للخلاص من الاستبداد. لكن بعد مرور مائة عام، تراجعت مصر إلى حكم الضباط بلا انقطاع، فيما تجاوزت تركيا هذا الإرث تدريجياً نحو دولة مدنية تعددية، أما إيران فظلت رهينة حكم الفقهاء. هذا التباين – كما يرى الهواري – يكشف مأساة مصر التي بقيت أسيرة الحكم العسكري، وهو ما يفسر سلسلة الانتهاكات الدستورية في عهد عبد الفتاح السيسي، الذي حوّل الدستور من وثيقة لضمان الحقوق والحريات إلى مجرد أداة لتكريس سلطته.
 

دستور معطل وشعوب مهمشة
يرى معارضون بارزون أن مصر اليوم لا تواجه مجرد أزمة حكم أو أزمة معيشية، بل أزمة وجود مرتبطة بغياب الدستور الحقيقي. فبدلاً من أن يكون الدستور مرادفاً للحرية والعدالة، أصبح أداة لتبرير القمع. ومن هنا، يخلص الهواري إلى أن أي مواجهة للخطر الإسرائيلي أو للتحديات الإقليمية لن تكون ممكنة ما دامت الشعوب مسلوبة الإرادة. فإحياء الدستور بمعناه الحقيقي – أن يكون للشعب سلطة الكلمة والقرار – هو الشرط الأول لأي نهضة.
 

ما لم ينكسر القيد
تقرير الهواري يعكس بوضوح أن أزمة مصر ليست في عجز اقتصادي أو أمني فقط، بل في استبداد سياسي يضرب بجذوره في عمق الدستور المنتهك. فمنذ اللحظة التي حنث فيها السيسي اليمين، دخلت البلاد نفقاً طويلاً من تزييف الشرعية، ولا مخرج منه إلا بعودة الدستور إلى أصحابه الحقيقيين: الشعب. لكن حتى ذلك الحين، تبقى مصر أسيرة نظام يرى أن بقاءه فوق أي اعتبار، ولو كان الثمن هو إهدار مائة عام من نضال الشعوب من أجل الحرية والعدالة.