لم تكن المواطنة في الوجدان المصري مجرد كلمة في القاموس السياسي أو شعاراً في الخطب الرسمية، بل كانت عقداً غير مكتوب يربط المواطن بالدولة، يمنحه شعوراً بالانتماء والكرامة، ويقابله استعداد للتضحية والدفاع عن الوطن. هذه الرابطة العميقة تشكلت عبر عقود، حين كانت الدولة تقدم للمواطن ما يعتبره حقاً طبيعياً: عمل كريم، تعليم مجاني، رعاية صحية شاملة، سكن ميسر، ودعماً أساسياً للفقراء. كل ذلك لم يكن منّة أو هبة، بل جزءاً من عقد اجتماعي رسخ فكرة أن المواطن سيد في وطنه.
غير أن هذا العقد بدأ يتآكل شيئاً فشيئاً، حتى انهار كلياً بعد انقلاب عبد الفتاح السيسي عام 2013، حيث تحولت مصر إلى دولة زبونية تحكمها المحسوبية والولاءات الشخصية، وتُدار لمصلحة نخبة ضيقة من رجال الأعمال والعسكريين المتحالفين مع رأس السلطة.
المحامي والحقوقي خالد علي كتب في تدوينة مطولة أن التحول من "المواطنة" إلى "الزبونية" لم يكن مجرد تغيير في المصطلحات، بل انقلاب جذري في علاقة الفرد بالدولة والمجتمع. فالمواطن الذي كان يطالب بحقه المشروع أصبح اليوم "زبوناً" يتودد إلى أصحاب السلطة كي يحصل على ما كان له من حقوق.
وأوضح علي أن المواطنة الحقة تعني أن يكون الحق مضموناً بالقانون والعدالة الاجتماعية، أما في النظام الزبوني، فإن كل شيء يُباع ويُشترى بالمال أو النفوذ أو القرابة.
منذ استيلاء السيسي على الحكم، تفاقمت هذه الظاهرة بشكل غير مسبوق.
فالدولة لم تعد ممثلاً لإرادة الشعب، بل أداة في يد "المحاسيب"، كما يسميهم خالد علي. الدعم تقلص، المستشفيات العامة انهارت، التعليم تحوّل إلى عبء مالي عبر الدروس الخصوصية، والإسكان بات حلماً بعيد المنال للطبقات الوسطى والفقيرة.
كل هذه التغيرات أفرغت "المواطنة" من مضمونها، لتصبح الوطنية مجرد شعارات ترفعها السلطة بينما تسحق المواطن في حياته اليومية.
خالد علي يلفت إلى أن الوطنية الحقيقية لا تُقاس بمدى ترديد الأناشيد أو رفع الأعلام، بل بمدى شعور المواطن بالكرامة والاستحقاق.
وهذا ما تلاشى في عهد السيسي، إذ باتت الوطنية مسخاً مشوهاً تُفرض على الناس بالقوة وتُستخدم لتبرير القمع، بينما يفتقد المواطن أبسط مقومات العيش الكريم.
الأخطر من ذلك أن الزبونية فتّتت المجتمع، وحولته من أمة مواطنين متساوين إلى جزر متناحرة من "الزبائن". فمن لديه المال أو السلطة يستطيع شراء كل شيء، حتى ما ليس حقاً له، بينما الغالبية الساحقة تُقصى وتُحرم من حقوقها. بهذا المعنى، فإن مصر لم تعد "وطناً واحداً"، بل شبكة مصالح متناقضة تديرها نخبة صغيرة لحسابها الخاص.
هذا التحول يطرح سؤالاً وجودياً، كما كتب خالد علي: هل نحن أمة متساوية الحقوق والواجبات، أم مجرد أفراد متنافسين على رضا أصحاب السلطة؟ الإجابة المؤلمة أن نظام السيسي قاد مصر إلى السيناريو الثاني، حيث لا مكان للقانون أو المؤسسات، بل فقط للمحسوبية والقرابة.
ولعل أخطر ما في هذه المعادلة أنها تسحق فكرة "الوطنية" ذاتها. فكيف يمكن للمواطن أن يضحي من أجل وطن لا يعترف به ولا يمنحه حقوقه؟ وكيف يطالب بالالتزام والواجب بينما تُنتهك كرامته وتُسلب حقوقه؟ بهذا المعنى، فإن السيسي لم يقضِ فقط على الديمقراطية والحريات، بل ساهم في قتل الوطنية في وجدان المصريين، وحوّلهم إلى مجرد أفراد يركضون وراء لقمة العيش في ظل دولة لا تعترف بهم إلا كأرقام في طوابير الضرائب والقمع.
إن إعادة إحياء المواطنة، كما يرى خالد علي، تتطلب عودة العقد الاجتماعي الحقيقي: أن تكون الحقوق أصيلة وليست هبات، وأن تُبنى العلاقة بين الفرد والدولة على الكرامة والعدالة لا على الولاءات والمحسوبية. غير أن هذا لن يتحقق في ظل نظام قائم على الاستبداد والزبونية، بل يتطلب تحولاً جذرياً في بنية الحكم وفي علاقة الدولة بالمجتمع.
وفي النهاية، فإن انهيار الوطنية في عهد السيسي ليس مجرد أزمة سياسية أو اقتصادية، بل أزمة هوية وجودية تهدد بقاء الأمة ذاتها. فإما أن يعود المصريون مواطنين في وطنهم، أو يظلون زبائن في سوق فساد لا يعرف إلا المال والنفوذ.